مجد أبي..!
ست سنوات قاسية مثقلة بالهموم الوطنية والمعاناة الإنسانية، عاشها جنود مصر على جبهة القتال في الفترة ما بين زلزال هزيمة يونيو 1967 ونصر السادس من أكتوبر 1973.
في تلك السنوات الصعبة كان الجنود والضباط يخوضون في حياتهم الشخصية معركة موازية لتجاوز حالة الهزيمة النفسية واستعادة الثقة في الذات، ومواصلة الحياة والحب والزواج، على أمل الراحة والاستقرار مع الأسرة، وجني ثمار سنوات الصبر بعد النصر والثأر واستعادة الأرض العزيزة المسلوبة.
ويُمكن أن نعد الخطابات الشخصية التي أرسلها الجنود والضباط من جبهة القتال إلى أسرهم وأصدقائهم، وثائق إنسانية وتاريخية، تُلقي الضوء على معاناتهم وحكاياتهم وآمالهم وأحلامهم في تلك السنوات الصعبة.
وهي وثائق تُعطي مادة خاما ثرية للمؤرخين والأدباء والشعراء وعلماء الاجتماع لدراسة سنوات الهزيمة والنصر، ومعرفة همة وسمات وطبيعة الرجال الذين رفضوا الهزيمة وصنعوا النصر.
ولهذا كم أتمنى لو استطعنا تجميع تلك الخطابات في صورتها الأصلية، ورقمنتها وأرشفتها، ونشرها وإتاحتها للجمهور العادي وللباحثين، في محاولة لإنعاش الذاكرة الوطنية، واستدعاء تضحيات وشجون هؤلاء الأبطال، وتخليد أسمائهم وحضورهم ودورهم في الوعي الجمعي المصري.
ولأن أبي - رحمة الله عليه- الذي توفاه الله الأسبوع الماضي، كان أحد الأبطال الذين صنعوا مجد الصبر والنصر في تلك السنوات الصعبة، وشارك في حرب اليمن والاستنزاف والسادس من أكتوبر، وكان أحد الرجال الذين تم حصارهم في "ثغرة الدرفسوار، فكم كان سروري عظيمًا عندما وجدت بين مقتنيات أبي خطابًا أرسله من الجبهة إلى أمي يوم 19-8-1973، قبل نحو شهر ونصف من يوم العبور العظيم.
في هذا الخطاب نقف على مشاعر وأحلام هذا المقاتل المصري الصعيدي الشاب، والمؤمن الواثق في الله، الذي ترك في أسيوط زوجة شابة وثلاثة أطفال في بيت صغير، كان يبني ويسقف بيته الجديد بالتدريج، ويسأل في الخطاب عن أخبار عملية البناء والسقف.
وهو يُرسل في خطابه أيضًا سلامًا حارًا لزوجته وأطفاله وأمه وإخوته، ويدعو زوجته لشراء ما تحتاج إليه، وعدم حرمان نفسها والصغار من شيء، وهو على جبهة القتال محروم من كل شيء، حتى متعة إرسال الخطابات لهم سوف تتوقف في الفترة القادمة لأسباب خارجة عن إرادته كما ذكر في خطابه.
وهذا نص الخطاب الذي يمثل عندي مجد أبي وموضع فخري، ومجد وموضع فخر كل أبناء وأحفاد الذين صبروا وضحوا وقاتلوا، وتجاوزوا الهزيمة، وصنعوا نصر أكتوبر 1973.
«بسم الله الرحمن الرحيم...
تحياتي وأشواقي وأمنياتي الطيبة. وأتمنى أن تكونوا بخير وفي صحة جيدة.
إني والله في شوق إليكم، وأنكم في ذاكرتي دائمًا.
سلامي إليكم ألف تحية وسلام. وسلامي إلى ولدي أحمد، وأدعو من الله أن يكون بخير وسلام لأنه كان تعبان وأنا مسافر.
أقسم بالله أنا مشغول جدًا عليه، وعليكم، ولكن لن أستطيع أن أرسل خطابات لكم مرة أخرى.
أريد أن أعرف ما تم في موضوع سقف بقية الشقة؟
أنا مشتاق لولدي أشرف جدًا جدًا، ودائمًا في ذاكرتي، وبحلم به.
أنا مشتاق لولدي أحمد جدًا جدًا، ومشتاق لهدوئه، وفرحت به وهو يجري في الشارع ناحيتي في إجازتي السابقة.
مشتاق لبنتي صفاء جدًا، وأرجو تخلّو بالكم عليها.
وأرجو المحافظة على صحتكم كلكم لأنها أهم حاجة عندي.
والله أنا مشتاق إليكم جدًا، وأنتم تعرفون مقدار معزتكم عندي. وأكرر وأقول: لن أستطيع أن أرسل خطابات مرة أخرى لظروف خارج إرادتي. وأدعو الله أن يهب لكم الصحة والسعادة.
سلامي إلى الست الوالدة أمي، لأني مشتاق لدعواتها. وسلامي إلى أخي عبد الرحيم وأولاده، وسلامي إلى أخي جلال وأولاده. وسلامي إلى أخي علي وأولاده، وسلامي إلى أخي أحمد، وأتمنى أن يكون الجميع بخير.
وسلامي إلى حماي عمي محمد السيد، وأدعو له بالصحة والسعادة. وسلامي إلى الست الفاضلة حماتي أم عارف، وأتمنى أن تكون بخير. وسلامي إلى الأستاذ عارف، وأدعو أن يوفقه الله.
زوجتي العزيزة، أنا بخير وفي صحة جيدة، ومشتاق لكم، ومشغول عليكم. وأرجو ألا تشغلوا نفسكم، وتتضايقوا بموضوع البعد والفراق لأنه ليس بيدي.
وربنا موجود ويفعل الخير مستقبلًا. وإن شاء الله يأتي اليوم الذي نستقر فيه مع أولادنا، لأني واثق في الله كل الثقة.
أرجو أن تشتروا كل ما تحتاجون إليه، وكل ما تريدون، وتكونوا دائما مبسوطين، ولا تتضايقون من شيء، لأن الله هو اللي بيده كل شيء، وما يريده يكون، ولا يريد إلا الخير.
أنا عندما أكون في إجازة معكم، وأراكم في صحة وسعادة، وهناء، بكون أسعد إنسان. وأكرر وأقول إن شاء الله يأتي اليوم، اللي أكون فيه قريب من أولادي، وأبوس على إيديهم بالليل والنهار. وأقول كانت حياتي كلها بعد وغربة، وربنا حقق أمنيتي ويتم استقرارنا.
ولكم مني تحياتي وأمنياتي الطيبة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته٠
الراسل: عبد العال عمر علي جعفر».
وفي نهاية هذا العرض لنص الخطاب الذي أرسله أبي - رحمة الله عليه - لأمي قبل يوم العبور بشهر ونصف، أحب أن أقول: إن هذا الجيل العظيم المؤمن بربه ووطنه، الجيل الذي صبر وتحمل قسوة الحياة على جبهة القتال لست سنوات، وتجاوز مرارة الهزيمة، وعبر وانتصر، واستشهد على الجبهة طوال فترة المعارك أفضل أبنائه، هو الجيل الذي تحدث عنه الرئيس السيسي في خطابه أمام الندوة التثقيفية الـ29 للقوات المسلحة، وقال عنه: "إنه مخدش حاجة مقابل تضحياته وصبره وانتصاره".
وبحسبة بسيطة سوف نعرف أن هذا الجيل العظيم قد رحل معظم رجاله، ومَن طال بهم الأجل لليوم عددهم قليل، وسوف تكون أعمارهم بين الخامسة والسبعين، والخامسة والثمانين.
ويعلم الله أنهم عاشوا حتى وفاتهم شهداء أحياء يقاتلون على جبهات أخرى لتوفير الستر والحياة الكريمة لهم ولأطفالهم وأسرهم، بعد أن سرق ثمار النصر لصوص الأحلام والأوطان، كما كشف لنا ذلك سينمائيا المخرج الراحل عاطف الطيب في فيلميه الرائعين "كتيبة الأعدام و"سواق الأتوبيس".
رحم الله أبي الكريم، ورحم أبطال وشهداء مصر العظام، من أبناء هذا الجيل الوطني العظيم، الذي صبر وضحى وصنع النصر.