في ذكرى وفاة الرسول الكريم.. كيف صور العقاد عبقريته السياسية؟
حلت اليوم ذكرى وفاة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، حيث انتقل إلى الرفيق الأعلى في مثل هذا اليوم 8 يونيو من عام 632، وقد أُلفت الكثير من الكتب عن الرسول الكريم سواء قديما أو حديثا، ومنها كتاب عبقرية محمد للكاتب الكبير عباس العقاد.
يتناول العقاد في كتابه العبقرية السياسية للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهي العبقرية التي تجلت في أبهى صورها في صلح الحديبية الذي أبرز - كما يرى العقاد- تدبير محمد صلى الله عليه وسلم في سياسة خصومه وسياسة أتباعه، وفي الاعتماد على السلم والعهد حيث يحسنان ويصلحان، والاعتماد على الحرب والقوة حيث لا تحسن المسالمة ولا تصلح العهود.
العبقرية السياسية للرسول
ويقول العقاد: بدأ بالدعوة إلى الحج، فلم يقصره في تلك السنة على المسلمين المصدقين لرسالته، بل شمل به كل من أراد الحج من أبناء القبائل العربية التي تشارك المسلمين في تعظيم البيت والسعي إليه، فجعل له وللعرب أجمعين قضية واحدة في وجه قريش، ومصلحة واحدة في وجه مصلحتها، وفصل بذلك بين دعواها ودعوى القبائل الأخرى، ثم أفسد على قريش ما تعمدوه من إثارة نخوة العرب وتوجيهها إلى مناوأة محمد والرسالة الإسلامية. فليس محمد وأصحابه أناسًا معزولين عن النخوة العربية يضعون من شأنها ويبطلون مفاخرها، ولكنهم إذن عرب ينتصر بهم العرب ولا يذلون بانتصارهم، أو يقطعون ما بينهم وبين آبائهم وأجدادهم. فإذا خالفوا قريشًا في شيء فذلك شأن قريش وحدهم أو شأن المنتفعين من قريش بالسيطرة على مكة، وليس هو بشأن القبائل أجمعين.
ويضيف العقاد: فلم يفصل بهذه الخطة بين العرب وقريش وحسب، بل فصل بين قريش ومن معهم من الأحابيش، وجعل الزعماء وذوي الرأي يختلفون فيما بينهم على ما يسلكون من مسلك في دفعه أو قبوله أو مهادنته، وهو عليه السلام يكرر الوصاة لأتباعه بالمسالمة والصبر منعًا للاتفاق بين خصومه على قرار واحد، وقلَّ من أتباعه من أدرك قصده ومرماه حتى الصفوة المختارين.
يستكمل العقاد: ولما اتفق الطرفان المسلمون وقريش على التعاهد والتهادن، كانت سياسة النبي في قبول الشروط التي طلبتها قريش غاية في الحكمة والقدرة «الدبلوماسية» كما تسمى في اصطلاح الساسة المحدثين ، مضيفا: ثم تعاهدوا على أنَّ مَنْ أتى محمدًا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشًا من رجال محمد لم يردوه عليه، وأنه من أحب من العرب محالفة محمد فلا جناح عليه، ومن أحب محالفة قريش فلا جناح عليه، وأن يرجع محمد وأصحابه عن مكة عامهم هذا على أن يعودوا إليه في العام الذي يليه، ويقيموا بها ثلاثة أيام ومعهم من السلاح السيوف في قُرُبها، ولا سلاح غيرها.
ولو كان عهد الحديبية هذا قد كتب بعد قتال انهزم فيه المشركون وانتصر فيه المسلمون، لوجب أن يكتب على غير هذا الأسلوب، فيعترف المشركون كرهًا أو طوعًا بصفة النبوة ولا يردون أحدًا من مواليهم أو قاصريهم يذهب إلى النبي ويلحق بالمسلمين.
ويوضح العقاد: لو أن النبي عليه السلام شرط على قريش أن ترد إليه من يقصدها من رجاله لنقض بذلك دعوى الهداية الإسلامية، ونقض الوصف الذي يصف به المسلمين، فإن المسلم الذي يترك النبي باختياره ليلحق قريشًا ليس بمسلم، ولكنه مشرك يشبه قريشًا في دينها وهي أولى به من نبي الإسلام … أما المسلم الذي يرد إلى المشركين مكرهًا فإنما الصلة بينه وبين النبي هي الإسلام، وهو شيء لا سلطان عليه للمشركين، ولا تتقطع الصلة فيه بالبعد والقرب. فإن كان الرجل ضعيف الدين ففتنوه عن دينه فلا خير فيه، وإن كان وثيق الدين فبقي على دينه فلا خسارة على المسلمين.
ويستطرد: وما انقضت فترة وجيرة حتى علمت قريش أنها هي الخاسرة بذلك الشرط الذي حسبته غنمًا لها وخذلانًا لمحمد صلوات الله عليه … فإن المسلمين الذين نفروا من قريش ولم يقبلهم محمد في حوزته رعاية لعهده، قد خرجوا إلى طريق القوافل على تجارة قريش يأخذونها وهي أمان في عهد الهدنة بين الطرفين، فلا استطاع المشركون أن يشكوهم إلى النبي لأنهم خارجون من ولايته بحكم الهدنة، ولا استطاعوا أن يحجزوهم في مكة كما أرادوا يوم أملوا شروطهم في عهد الحديبية، ولو قضى العهد بولاية النبي على من ينفر من مسلمي مكة لجاز للمشركين أن ينقضوه أو يطالبوا النبي بالمحافظة عليه.
ويواصل العقاد حديثه عن عبقرية الرسول في هذا الصلح الذي انتهى بفتح مكة في العام التالي، ويعلق العقاد قائلا: هكذا تجلت عبقرية محمد في سياسة الأمور كما تجلت في قيادة الجيوش. فكان على أحسن نجاح في سياسته إذ نادى بعزيمة الحج وهو لم يفتح مكة بعدده وعدته، وإذ دعا المسلمين وغير المسلمين إلى مصاحبته في رحلته، وإذ توخى ما توخى من طريقة المسالمة وإقامة الحجة في إنفاذ عزيمته، وإذ قبل العهد الذي كبر قبوله على أقرب المقربين من عترته، وإذ نظر إلى عقباه ووصل به إلى القصد الذي توخاه.