الحسين والفتى مهران
فاته الكثير من صور الجمال الأدبي والفكري والإنساني، مَن لم يقرأ المسرحيات الشعرية للراحل الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي (1920- 1987)؛ فهي منجم متجدد لكل معاني وصور المروءة والفتوة والفروسية والتضحية، وشجاعة قول الحقيقة، وتكريس العمر من أجل قضية دينية وإنسانية ووطنية عادلة.
ومن قرأ مسرحيتي "الحسين ثائرًا" و"الحسين شهيدًا" للراحل عبد الرحمن الشرقاوي، اللتين تُجسدان فروسية وشجاعة وفتوة ومعاناة الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، وآل بيت رسول الله الكرام، منذ خرج الحسين من مكة المُكرمة إلى الكوفة يوم الثامن من شهر ذي الحجة سنة 60 هجرية، استجابة لدعوات التأييد التي جاءته من أهلها، وصولًا لنهاية مذبحة كربلاء يوم 10 محرم سنة 61 هجرية.
ثم أعقبهما بقراءة مسرحية "الفتى مهران"، التي تحكي قصة فروسية وشجاعة البطل المصري "مهران"، ودوره هو وأصحابه في مواجهة ظلم الولاة، وغفلة السلطان، يجد أنهم يدوران حول موضوع واحد، هو العدل والحرية، ودور الكلمة الصادقة الشجاعة في الدفاع عنهما.
كما سيجد أن "الفتي مهران" هو - إلى حد كبير- التجسيد المصري المعاصر لشخص وبطولة الإمام الحسين، ولكنه الحسين في صورة فلاح مصري بسيط، صاحب همة ومروءة ونخوة، قرر أن يصبح مثل الحسين بطلًا لقضية عادلة محتضرة خانها أصحابها، وهي قضية العدل والحرية والحياة الكريمة، ورفض ظلم وقبح الأمر الواقع.
ولهذا ما أعظم التطابق بين قول عبد الرحمن الشرقاوي في "الحسين شهيدًا" على لسان الإمام الحسين، في نقد عصره ورجاله:
يا أيها العصر الرزي لانت غاشية العصور
قد آل أمر المتقين إلى سلاطين الفجور
قل أي أنواع الرجال جعلتهم في الواجهات؟
قل أي أعلام رفعت على البروج الشاهقات؟
فلتذكروني عندما يفتي الجهول
وحين يستخزي العليم
وعندما يهن الحكيم
وحين يستعلي الذليل
وإذا تبقى فوق مائدة امرئ ما لا يريد من الطعام
وإذا اللسان أذاع ما يأبى الضمير من الكلام.
وبين قول الشرقاوي على لسان البطل المصر الحديث "الفتى مهران":
في شرفات هذا العصر
قد وقف الرجال الزائفون
مهفههين ملمعين
مثل البغايا حين يقطعن الطريق على وقار العابرين
لكنه زمن وسيمضي وسينتهون.
وبين قول الفتى مهران أيضًا، وهو على وشك الرحيل، منبهًا من سيأتي بعده لاستكمال أحلامه:
ها أنا أرحل وما قلت الذي عندي
لم تزل عندي أشياء تُقال.
ها أنا أرحل وما حققت حلمًا واحدًا
لم يظل في القلب مني ألف حلم
لم يزل في الرأس من ألف شيء
وأنا أمضي بأحلام حياتي.
وهنا يبرز هذا السؤال: هل رحلا حقًا الحسين بن علي والفتي مهران؟
لا أظن ذلك، لأنهما صارًا فكرة ومجازًا ونموذجًا إنسانيًا مفهوميًا متخمًا بكل معاني وصور وأحلام العدل والحرية والحياة الكريمة للإنسان في كل زمان ومكان؛ ومَن كان كذلك يصبح خالدًا لنهاية الزمن بأثر حضوره ونوره وأفكاره ودوره.