محمد بيومي مهران.. عمدة علماء علم المصريات
من ذات البقعة التي خرجت منها لوحة نعرمر لتكون نقطة مفصلية في فهمنا لتاريخ مصر القديمة، ومستندا مركزيا في فهم علم المصريات.. خرج الدكتور محمد بيومي مهران.
وكأن هذه البقعة جادت لمصر بهذه اللوحة الدالة على توحيد مصر العليا ومصر السفلى، وجادت بهذا العالم الجليل الذي لُقب بين زملائه وتلامذته من المؤرخين والآثاريين بـ عمدة علماء المصريات.
ولد الدكتور مهران ببلدة البصيلية، بإدفو بمحافظة أسوان، عام 1928، وتخصص بعد جولات من العلم والتعلم بين محافظات القطر المصري في آخر عقود حكم الأسرة العلوية للبلاد، في مجال تاريخ مصر والشرق الأدنى القديم.
وقد ملأ الدنيا طولا وعرضا، تعليما وتدريسا وتأليفا ومشاركة في الحفائر الأثرية لكلية الآداب بجامعة الإسكندرية.
حيث تزيد مؤلفاته على الستين كتابا، وتمتد لتغطي محطات من تاريخ مصر القديمة والشرق الأدنى بأكمله، معالجا ومرمما لتصوراتنا عن هذه المراحل بدراسات ومؤلفات عن الرعامسة وإخناتون والثورة الاجتماعية الأولى في مصر القديمة.
ناهيك عن دراساته الرائدة حول اليهود وبني إسرائيل، والتي تعد أسفارا علمية مكتملة البنيان.
لم يكن الدكتور محمد بيومي مهران منغلقا على تخصصه، بل أفاد في تخصصات تاريخية عدة، وأنتج عددا هائلا من الدراسات النقدية التي غطت تاريخ المنطقة العربية.
لقد رأى الدكتور مهران الخيط الناظم لأحداث وتاريخ الشرق الأوسط منذ تاريخ مصر القديم وحتى الفترات المبكرة من التاريخ الإسلامي.
لم تقتصر مؤلفاته على التاريخ الفرعوني وإنما امتدت لبعض السير في العصر الإسلامي، في نموذج فذ للمثقف الموسوعي المهموم ببلده وتراثه وأمته.
وقد أسعدني طالعي بأن كان الدكتور مهران أستاذي المباشر والأب الروحي لي في علم المصريات، والعملاق الذي تحركت على ظلاله حتى استوت ساقاي في هذا المجال.
ولم تكن صلة القرابة التي تربطني به بموجب انتماء كلينا لبلدة البصيلية (واحدة من أقدم عواصم مصر التاريخية)، وبموجب التقاءنا في النسب في جد ليس ببعيد، إلا دافعا له لتوجيهي بكل صرامة علمية ممكنة.
فقد كان الرجل مهموما ببلده وبأمته، وكان يمارس هذا الدور بحماسة وانضباط عسكري بأكثر مما كان يبدو كأكاديمي مشغول بالمكتبات وقاعات الدرس.
وقد أسس الدكتور مهران شعبة الآثار المصرية، في وقت لم يكن في القطر المصري مدرسة علمية أكاديمية مخصوصة بعلم الآثار سوى كلية الآثار التابعة لجامعة القاهرة. ويشهد الواقع الانتشار والثمرة الهائلة لخريجي شعبة الآثار المصرية في المجال الأكاديمي المصري وفي الجامعات والكليات المعنية بهذه الدراسات القيمة.
لقد تجول الدكتور مهران بين البلدان العربية باحثا ومؤلفا، وملأ جامعاتها علما ونورا، وترك وراءه عشرات التلاميذ النوابغ الذين يتشرفون بالدراسة والتعلم على يديه.
لقد لقي الدكتور مهران ربه راضيا مرضيا عام 2008 عن 79 عاما، كرسها جميعا للعلم، ولبلاده وتاريخها.
وإن أقل القليل الذي يمكن أن نحيي به ذكرى هذا العالم الفذ هو أن تضع هيئة التنسيق الحضاري لوحة تعريفية بالمكان الذي عاش به في محافظة الإسكندرية.
فإن بمثل هؤلاء تستمد الأجيال مصادر إلهامها.. وبمثل هؤلاء تحيا الأمم.
رحمه الله، فاليوم ذكرى ميلاده.
*أ.د.عصام السعيد
*دبلوماسي سابق وأستاذ الآثار المصرية بجامعتي الإسكندرية والسلطان قابوس