إلى مسئولي التعليم.. أعيدوا كتاب عمر وأمل
الذين بدأوا رحلة الالتحاق بالتعليم النظامي المصري في أوائل الثمانينيات لا يمكنهم أن ينسوا ذلك الكتاب البديع الذي تعلموا من خلاله مبادئ القراءة والكتابة، واكتسبوا من دراسته قيمًا وخبرات معرفية وحياتية ومهارات لغوية لا تزال عالقة في أذهانهم ومحفورة في وجدانهم لا يمحوها تتابع الأيام ولا يطمسها كر الليالي.
هذا الكتاب الذي كان يحمل عنوان القراءة العربية الجديدة لمؤلفه الدكتور محمد محمود رضوان، رحمه الله، كان رائعًا في كل شيء؛ في حجمه المناسب للتلميذ، وفي إخراجه الذي كان يتجلى في جودة الخط المكتوب به ووضوحه، والصور المعبرة المرسومة بإتقان، وفي التوزيع النسبي بين عناصر الصفحة في كل درس.
عادت بي الذاكرة إلى «عمر وأمل»، وأنا أقلب صفحات الكتاب المقرر على ابني أحمد بالصف الأول الابتدائي، ووجدتني لا أشعر بأي حرج إن طالبت القائمين على التعليم، خاصة المسؤولين عن مرحلة التعليم الأساسي، بإعادة تدريس ذلك الكنز التعليمي لتلاميذ الصفوف الأولى بالمرحلة الابتدائية؛ إذ إن محتوى ذلك الكتاب يدل على أنه نتاج فكر تربوي وتعليمي تقدمي.
قد يرى البعض أن مطلبي هذا يتضمن ردة إلى الخلف ودعوة للنكوص والتراجع للوراء، لكن ربما يتغير رأيهم إذا علموا أن أي منهج تعليمي يُوضع وفق وثيقة المعايير الوطنية التي تراعي السياق الحضاري والمجتمعي، وتتضمن أسسًا نفسية ومجتمعية وحضارية، ويُراعى في بنائه احتياجات التلاميذ وميولهم وخصائصهم، ويُرجى من خلاله تحقيق أهداف معرفية ومهارية ووجدانية وأخلاقية ووطنية وقومية.. وعند مطالعة كتاب «عمر وأمل» يمكن القول إنه يحقق كل المعايير التربوية والتعليمية لمستوى التعليم الابتدائي التي يمكن أن تتضمنها أحدث وثيقة معايير تصدرها هيئة أو مؤسسة تربوية.
كان كل درس في الكتاب القديم يحتوي على المفردات المستهدف تعليمها للتلميذ، وتصاغ منها جمل قصيرة في مواقف شيقة متنوعة تقدم قيمًا معرفية وخلقية ومجتمعية ووطنية ويراعى فيها التدرج والترابط، بطريقة جذابة ومحكمة خالية من التكلف أو التصنع، فكان التلاميذ يتغنون بالدروس في الشارع والبيت: «مدرستي يا مدرستي.. فيكِ أقضي كل الوقتِ... »، و«أمي أمي.. ما أغلاها... » و«ألف باء يعني أب.. هو في عيني أحلى أب... »، و«لي أخٌ مُجنَّد.. اسمه محمد.. قام في الصباح.. يحمل السلاح... »، وقصة «الثعلب المكار»، وحكاية «عمي حسن والكرنبة».. ولئن قابلت اليوم أحد أبناء هذا الجيل وسألته مازحًا: «قلمُ مَن؟»، فسوف يجيبك: «أحمد عثمان».
والمواقف التعليمية في ذلك الكتاب كانت تُبنى في سياقات متعددة الأماكن ومتنوعة البيئات؛ في البيت والمدرسة وفي الريف والمدينة؛ لذا كان الكتاب مستوفيًا كل المفردات الحسية في بيئات التلميذ، التي تتعلق بالأسرة، والأقارب، وأصدقاء المدرسة، والمعلمة، والحيوانات، والطيور، والنباتات، بالإضافة إلى المفردات المعنوية المناسبة للمستوى التعليمي.
ولئلا يبدو الكلام ضربًا من انطباعات الطفولة أو مجرد نزعة نوستالجية، أُقِر بأنني طالعت الكتاب المقرر على تلاميذ الصف الأول الابتدائي لعام 2022 أبحث عن التحديث الذي سمعت عنه فوجدت محاكاة لطريقة كتاب «عمر وأمل» وتقليدًا لا يخلو من تكلُّف؛ ففي أحد الدروس تُعرض الجمل متتالية كما يأتي:
قال أبي: حمل النمل الحب.
قالت أمي: حمل النمل الحب في الحر.
قال أبي: حمل النمل الرمل أيضًا.
قالت أمي: وحمل اللُّب.
قالت أمي: أنا أحب النمل.
قال أبي: أنا أحب النمل أيضًا.
قد يبدو أن المستهدف تعليم كلمات فيها حرفا الحاء واللام، والتمييز بين الكلمات المتشابهة في الحروف مثل «الحب، واللب، والحر، والنمل، والرمل»، لكنني لا أفهم أي قيمة يمكن أن تُقدم للتلميذ في جملة «أنا أحب النمل»، ومن أي جهة يمكن غرس حب النمل في وجدان التلميذ؛ هل لأن النمل حشرة أليفة أو ذات نفع في حياة الطفل؟! ولو كان المقصود الإعجاب بنشاط النمل وحسن إدارة حياته ونظامه، فالأوْلى أن يُعرض ذلك للتلميذ في سياق آخر أو في مرحلة متقدمة.. هذا بالإضافة إلى أن صور الدرس غير معبرة، وهيئة الأب والأم فيها غير مناسبة.
وفي درس آخر بعنوان هيا نزرع، تُعرض الجمل كما يأتي:
أحرث الأرض مع عم «أحمد».
قال عم «أحمد": «هيا نبذر الحب على الأرض».
نزل المطر على الزرع».
قال عمِّ «أحمد»: «المطر رزق».
أنبت الحب الورد.
أحب أن أزرع الورد مع عم «أحمد»
ومع التجاوز عن طريقة زراعة الورد، يبدو أن الدرس يستهدف تعليم كلمات تحتوي على حرف الراء «المطر – رزق – الورد – الزرع – أحرث - الأرض»، وعلى الرغم من حقيقة أن «المطر رزق»، فإن هذا الدرس لا يصلح في منهج لتلاميذ دولة مصر «مصب النيل»، فضلًا عن أن الصور في الدرس ليست واضحة وليست معبرة تمامًا.
وأما الصخب الموجود في أول الكتاب الحديث المتمثل في دروس القراءة والاستماع وما يسمونه أنشطة، فيلاحظ أنها تضخّم حجم الكتاب وتشبه متاهة للتلميذ، ولا تقدم فائدة أكثر مما في تدريبات الكتاب القديم التي كانت تراعي قياس التحصيل والفهم والاستيعاب وتنمية مهارات التفكير المناسبة، ولم يفُت المؤلف أن يضع للمعلم في كل صفحة تدريب هامشًا يضمّنه الغرض من التدريب وطريقة التنفيذ.. فكان التلميذ يتعرف الحروف في مواضعها وأشكالها المختلفة، ويستطيع التمييز بين المفرد والجمع، والنكرة والمعرفة، والمذكر والمؤنث، والصفات، والعلاقات بين الكلمات، بطريقة سهلة خالية من أي تعقيد.. وكانت الأنشطة الصفية واللاصفية تعتمد على ابتكار المعلم وتلاميذه حسب الإمكانيات المتاحة؛ بل إن الكتاب القديم كان يقدم دروسًا تحت تصنيف «تمثيلية» جاهزة للتمثيل، وفق أفضل استراتيجيات التعلم النشط.