بلد الأقصيين
مصر بلد الأقصيين.. أقصى اليمين، وأقصى الشمال، وليتهما عن رأي أو قناعة، وإنما هما انسياق حسب ما يقابلك، فأنت كمواطن تظل ملطوعًا، منتظر الأتوبيس، فإن جاء وكانت محطته أقصى اليمين، ركبتَه، وصرت زبونه الدائم المقاتل بشراسة دفاعًا عنه، وإن كان نصيبك أتوبيس أقصى الشمال، فستقوم بنفس الدور في المحطة المعاكسة.
وهذان الأقصيان ليسا حديثَي عهد بالمصريين، بل إنهما وُلدا وترعرعا منذ وُجد ذلك الكائن الذي كُتب عليه أن يُختَم بختم المصري، وصارا إرثًا ثقافيًّا تتوارثه الأجيال.. وأقرب مثال ما بعد أحداث 25 يناير، حيث انقسم المصريون لحزبين، تم توزيعهما عشوائيًّا، إلا قلة آثرت أن تلزم الكنبة، و"كل حزب بما لديهم فرحون".
العجيب أنك لو لم تكن لديك أي خلفية، واستمعت لطائفة أقصى اليمين، فستقتنع تمامًا بتوجههم، وتسير معهم، وإذا أعطيت أذنيك لأقصى الشمال، فستفعل نفس الأمر، وذلك ما حدث من متابعي القنوات الرسمية، وأولتراس القنوات الخارجية الممولة "كويس"، فكما فعلت في محطة الأتوبيس، تفعل في محطة التليفزيون.
وإذا تقهقرنا لسنوات بعيدة قليلًا، فسنجد من يؤلّه عبد الناصر ومن يرجمه، وهذه آفتنا، عدم وجود منطقة وسط أو نقطة اتزان أو توازن، فلا محبو عبد الناصر يطيقون أن تذكر أي سيئة أو هفوة له؛ بوصفه مَلَكًا كريمًا، ولا كارهوه يقبلون أن تُذكر له أي حسنة؛ لكونه شيطانًا رجيمًا.
وهذان الأقصيان ترى تطبيقهما في المجال المجتمعي، فهنا في أقصى اليمين من يرى أننا نتقدم.. يرى هذا وهو يتسارع ويتصارع لشراء فيلا "لقطة" بخمسة وعشرين مليون جنيه، وهناك في أقصى الشمال من يرى أن الحياة صارت "ضنكًا"، وهو يغرق في عرق الصراع على الرغيف "الحاف"، وكل منهما يدور في دائرته في معزل عن الآخر.
في يوم ما كان يملأ الدائرة من نقطة المركز إلى حوافها ما يُطلَق عليه "الطبقة الوسطى"، وهذا الحشو انقرض، ومن يومها صارت الدائرة بلا مركز؛ لذا سنظل ندور في دائرة مفرغة، حتى تدور بنا الدوائر؛ ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
وفي الجانب الديني نجد المجال وصل لأقصى اتساع بين الأقصيين، فالسنة في أقصى اليمين تتبادل الاتهام مع الشيعة في أقصى الشمال، والسلفيون يتراشقون مع الصوفيين القذف بالجهل لكل منهما.
وفي أيامنا نشهد تفسُّخ الأقصيين في اللعب بالمرأة، فنجد في أقصى اليمين تكالُب فتاوى "المرأة غير مطالبة"، وفي أقصى الشمال فتوى أن المرأة ملزمة بمساعدة زوجها ماديًّا، ولا يحق لها ادخار شيء وزوجها "عايز فلوس".
والكارثة ليست في تباعد الأقصيين وشِدَّة تنافرهما، وإنما في شَدِّ تنافرهما؛ ليرتدَّا بأقصى سرعة اندفاع، فكلما زادت المسافة، كان الارتطام أعنف، وهو ما سنظل نجني ثماره.
ورغم القتامة التي تغطي السماء، وتعبئ النفوس، فإن الحل بسيط جدًّا، وهو أن يُوجِدَ الأقصيان شبكة تواصل اجتماعي واقعية، ويجلسا ويستمعا لبعضهما، وإن توصّلا لشيء فسأعتزل الكتابة.