في ديوان عبد الرحمن مقلد.. شجرة الصنوبر تنتصر على طائرة «بوينج» العملاقة
يستعد الشاعر عبد الرحمن مقلد لصدور ديوانه الجديد «بوينج سي 17 ليست شجرة»، عن دار «المثقف للنشر والتوزيع»، ليكون المجموعة الرابعة بعد «نشيد للحفاظ على البطء» و«مساكين يعملون في البحر» و«عواء مصحح اللغة».
يقدم عبد الرحمن مقلد في مجموعته الجديدة نصوصًا مثل قصيدة «بوينج سي 17 غلوب ماستر ليست شجرة»، وهي من 3 حركات، تتعامل الأولى تحت عنوان «أبناء صنوبرة»، مع مشهد سقوط الأفغان من طائرة الشحن الأمريكية العملاقة.
ينحاز مقلد في حركته تلك إلى شجرة الصنوبر الشهيرة في أفغانستان، هذا البلد الذي قُهر شعبُه على مدى السنوات الطويلة، وبالتالي تنتصر الصنوبرة هذه المرة على طائرة الشحن التي لم تستوعب الهاربين فهي ليست بالتأكيد شجرة، ليست أمًا حنونًا، بل هي قاسية وملساء وليس لها لحاء خشن يمسك فيه المتعلقون الذين سقطوا ولم يدر أحد أين ذهبوا.
نحن ثلاثةُ أفغانٍ
خانَهم الحدسُ
فحسِبوا
طائرةَ «بوينج» الأمريكيةَ
تملكُ روحَ صَنَوْبَرةٍ
فتسلقَ كلٌّ منا
واحتضنَ الشجرةَ في داخلِه
وتفيأ ظلَّ جناحٍ
لكنَّ السطحَ الأملسَ لمحرِكها
ليس لحاءً يقرأُ نبضَ قلوبٍ خائفةٍ
ليميلَ الجذعُ الخشنُ
فروعًا نمسكُ فيها
الشجرةُ تملكُ قلبًا
أما الطائرةُ
جهازُ تحكمِها لم يدركْنَا
..
الطائرةُ «زوجةُ أبٍّ» قاسيةٌ
والشجرةُ أمٌ نتعلقُ في رقبتِها
حتى لا تخطفَنا الريحُ
ولا تأخذَنا الأرضُ
ولا يفتتنَا العشبُ الأخضرُ
نسقطُ
أو نتحطمُ
لكنا نبقى
أبناءَ صَنَوْبَرةٍ تبكي
إن أدركنَا الموتُ
شريفًا
لا يلتقطُ ثلاثة أفراخ تتوسدُ ريشَ جناحِ الطائرةِ
وفي الحركة الثانية لهذه القصيدة، تتحدث امرأة أفغانية تجمدت على الحدود التركية الإيرانية في رحلة هروبها من جحيم طالبان، بعدما تخلصت من ملابسها لإنقاذ أبنائها من التجمد، مضحية بنفسها وهي تتمنى أن تملك الآن رغيفًا واحدًا أو طبق حساء أو حفرة أو ثوب فراء أو شعلة نار، بأي مقابل كأن تكنس أدراج ناطحة سحاب في أميركا، أو تصنع حلوى لصغار العالم جميعًا:
لتأخذْ صيحاتِ الموضةِ جِلْدِي
ولتمنحي ثوبَ فراءٍ..
ولتستخرجْ مجموعاتُ النفطِ دمائي
وتهبي لترَ سبيرتو
ولينهبْ عظمي أبناءُ قبائلِ هذي المنطقةِ
قطاعُ الطرقِ مقابلَ شعلةِ نارٍ
لحمي لذئابِ الصحراءِ
لأعرف كيف أقدمُ مثل اللبؤةِ
إغراءَ الخائفةِ إلى المنتَهزِ
صغاري...
السيدةُ الجامدةُ
وهي ترتعدُ:
يمكنني أن أكنسَ آلافَ الكيلو مترات
وأحرثَ مئاتِ الأفدنةِ
مقابلَ جذعٍ
أصنعَ لصغارِ العالمِ حلوى
ولآخذ طبقَ حساءٍ
أمسحَ أدراجَ الناطحةِ
درجًا درجًا
مقابلَ جُحرٍ
حتى تأتي الشمسُ
في الحركة الثالثة من القصيدة وهي بعنوان «وفق رويترز»، يستفيد عبد الرحمن مقلد من عمله في الصحافة، في توثيقه الشعري لهذه الحكاية المؤلمة التي حملتها وكالات الأنباء، حول رضيع أفغاني تركه أبواه مع جندي أمريكي، خوف أن يندهس في التدافع الكبير إلى مطار حميد كرازي في الهروب الأفغاني الكبير، إلا أن الأسرة حين عادت لم تجد الجندي ولم تجد بالضرورة الرضيع.
في قصيدة مقلد، يتكلم هذا الرضيع في المهد، في إدانة كبيرة للقسوة البشرية والعنف الذي يلقى ضعاف هذا العالم.
تقولُ وكالاتُ الأنباءِ
والطائرةُ بوينج سفينةُ نوحٍ
تُقْلِعُ قبلَ قيامةِ هذا البلد
وتُبْعثُ في الجهةِ الأخرى من هذا العالمِ
صراطٌ يمتدُّ رفيعا
يمتدُ لآلاف الكيلو متراتِ
علينا أن نتقرفصَ فيه
وننسى أن رضيعا
ألقاه الجنديُّ وهربَ
يصيرُ المرءُ وضيعا
حين يكون الموتُ على مَقْرِبةٍ
لكني لستُ الابنَ العاقَ لنوحَ
ولم ألتمسْ القممَ العاليةَ لتورا بورا
لم أتقلدْ زيَّ «الطالبانِ»
ولا أتبعُ «القاعدةَ«
وأمسكُ جرينوفًا روسيًا
لأكونَ ضحيةَ هذا العبثِ
أكونَ يسوعا
بجوارِ البوابةِ
يتكلمُ في المهدِ
لكنْ لا يسمعُه الناسُ
كأن المعجزةَ اختارتْ أن يخمدَها الحَظُّ العَثِرُ
وتأبى أن تكتملَ
جوارَ سياجِ مطارِ كرازي
هكذا ينحاز مقلد في كامل ديوانه لقضايا الإنسان ضد الظلم والقهر وضد المادية البشعة وضد النظام الاقتصادي الجديد وهذا الحضور الطاغي للتقدم القشري، الذي يطحن البشر تحت براثنه طحنًا، مثل ما يرد في قصيدة «تقرير من الكهف»، كصرخة لإنقاذ البشرية من «المقلب» الذي يهوي إليه بهذه السرعة المذهلة، يصرخ الشاعر محذرًا ومدينًا وداعيًا للعودة إلى الكهف الأول للإنسان، للفطرة والبكارة في التعامل مع الأرض، التي تنهار تحت أقدامنا، داعيًا لاحترام الطبيعة والتوقف عن معاداتها حتى لا نصل لمثل هذا الوقت الذي سيكون علينا أن ندفع فيه الأثمان الباهظة، تبدأ القصيدة كهذا:
ترجعُ نحو الكَهْفِ
تأملُ أن ينجيَك اللهُ
ويصفحَ
هذي المرة أيضًا
لن تنفعَك الفطنةُ
في ترويضِ هجومٍ شَرسٍ
عدْ لرسومِك في جدرانِ الكهفِ
رُبَّ تُلاقي من معرفةٍ أولى
من أقطافِ بَدَاءَتِك وإهابِ الفطرةِ
ما يمنحُك الآن القدرةَ..
هشًا
مهْزُومًا
مدْمى
تقبعُ مثل خيالِ الظلِّ
جسدٌ ملقى
ورديمٌ
مأسورٌ في واقعِك الحيّ
لا تقويمٌ مفترضٌ
تهربُ فيه
لا أرضٌ أخرى تعمرُها
أو تعتمرُ الجهةَ العاليةَ
فلا يدركُك الخطرُ