مهدي الجميل

في كل مدينة أو محافظة أو مركز أو حتى قرية فيه نموذج لـ واحد "درويش" على باب الله.. راجل أو ست مش بتفرق، شخص سارح في ملكوت الله وبيمشي يرازي في خلق الله بدون تمييز.. بيسموه في بعض المناطق "عبيط المنطقة" أكله بيعتمد على صدقات أهل المنطقة والنومة مش بتفرق في بير سلم أى عمارة أو حتى على الرصيف.

زمان الدرويش ده في شارعنا في الصعيد كان اسمه "مهدي".. راجل كان وقتها في أواخر الستينات من عمره.. جلابية مقطعة، شعر منكوش طويل ودقن واصلة لـ أول صدره، حافي، إيدين ورجلين مشققين، طبقات وكُتل من السواد على جسمه كله من قلة الإستحمام.. كان جنانه أوقات جنان محكوم ممكن تسيطر عليه بشخطة أو تزعيقة وأوقات تانية كانت بتقلب معاه بـ غباوة.. يمسك طوب ويقعد يحدفه على الطلبة البنات وهما خارجين من مدرسة "خديجة يوسف" الثانوية بنات.. أو يمسكك عصاية حديد ويقعد يخبط على أبواب العربيات المركونة في الشارع.. أو يخطف كيس شيبسي من "ماركو" البقال على أول الشارع.

ساعات كمان يشتم في اللي رايح واللي جاي وده أضعف الإيمان.. أغلب الناس كانوا بيعرفوا يتعاملوا معاه.. فيه جانب إنسانى في شخصية "مهدي" الكل كان واخد باله منه هو إنه حنين.. كتير تشوفه قاعد ولامم حواليه القطط بتاعت الشارع بيحط لهم معاه من اللي بياكله.. ولما فيه كلبة ولدت 3 كلاب صغيرين وناس مؤذية سمموا الأم وإتنين من الصغيرين؛ صمم "مهدي" ياخد الكلب الثالث معاه ويشيله ويربيه!.. جاب العقل والتركيز ده منين!.. ماتعرفش.. كان فيه واحد من الجيران في الشارع اسمه "أشرف" أخو عضو مجلس شعب.. "أشرف" كان شخص محدش يعرفله شغلانة غير بس إنه أخو المهندس "محمد" باشا عضو مجلس الشعب اللي كان بيستمد عنطزته من سلطة أخوه فقط لا غير.

في مرة بعد صلاة الجمعة لقيناه نازل من عربية جديدة وكانت راكبة جنبه واحدة عرفنا بعد كده إنها خطيبته.. "مهدي" كان نايم على الرصيف.. لما شاف العربية الجديدة قام وجرى عليها وهو بيهلفط بـ أي كلام (بيب بيب بيب) وقعد يطبل على كبوت وشنطة العربية ويلف حواليها.. فرحان إنه شاف عربية جديدة في الشارع يعني.

فجأة "أشرف" لف ومسكه من جلابيته وراح رازعه قلم طرقع في الشارع كله!.. القلم فعلًا ما يستحملوش أي بني آدم مدرك وعاقل.. بس "مهدي" بعد ما خد القلم جاتله لحظة سكوت كده وبص له، وقال: (ياكش تتعلق ياكش تتعلق) وقعد يتنطط كإن مفيش حاجة حصلت ويجري هنا وهناك ويعاكس في ده وفي ده عادي جدًا.. لما كذا حد من الناس اللي كانوا ملمومين بعد صلاة الجمعة لاموا على "أشرف" إن مايصحش كده يعني ومينفعش تعمل رأسك وعقلك بـ عقل "مهدي" يعني كان رده الوحيد عليهم: (وهو أنا هعمل قيمة لـ ده كمان على آخر الزمن!).

وطبعًا محدش خد معاه حق ولا باطل كالعادة.. بعدها بـ كذا سنة لما عمارة الحاج "كامل نعيم" في آخر الشارع قامت فيها حريقة حاصرته هو وبناته التلاتة الصغيرين وبأعجوبة قدر يطلع من الشقة هو وإتنين منهم فضلت بنته التالتة "بسنت" جوه!.. وقتها أنا كنت في القاهرة ووالدي الله يرحمه بيحكيلي إن الوحيد اللي جري جوا العمارة اللي بتتحرق، وهو بيتنطط غير مدرك لـ اللي حاصل كان "مهدي" وهو بينادي عليها (باست باست باست) زي ما كان متعود يناديها!.. دخل فجأة ومحدش كان متخيل إن جنانه هيخليه يدخل.. مقدرش يطلع لا هو ولا هي وماتوا الإتنين للأسف.

بس فضل الكل فاكر شجاعته اللي مكانتش موجودة في كل الواقفين.. "مهدي" لما اتوفى كان كل أهل الشارع بيتخانقوا عليه مين اللي يدفنه في المقابر بتاعته.. "مهدي" لما اتوفى اتعملت له جنازة تليق بـ شخص كامل، عاقل، وشجاع.. حضرها الناس من أولها لـ آخرها ومحدش جري بعد قراءة أول ربع قرآن كـ أداء واجب زي العادة؛ لكن بالعكس الكل قعد للآخر.. وعشان تدابير القدر أعظم من أعظم دراما الحريقة دي كانت كانت في أوائل 2003.. من 10 سنين بالظبط وتحديدًا في ديسمبر 2012 لقوا جثة "أشرف" شانق نفسه في الأوضة بتاعته في شقته عشان كان بيمر بأزمة مالية ونفسية!.. خبطوا عليه لقوه ميت.. متعلق!.. زي ما دعى عليه "مهدي"!.

مهدي الجميل

• النبي "محمد" ﷺ قال: (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم).. ده المعيار الرباني في الحكم على الناس.. طب وبالنسبة لحكمنا إحنا!.. عمرها ما كانت بالشكل ولا بالمظهر.. قليلين اللي بيفهموا إن أساس الحكم الصح على الناس هو بالتعامل والمواقف.. أقل منهم اللي بيكون عندهم القدرة يشوفوا الناس من جوه مش باللي ظاهر منهم.. محدش عارف مين أحسن من مين عند ربنا.

خُد بالك من كلامك، تصرفاتك، ونظراتك للناس.. كتير منها بيخرج منك بقصد أو بدون بعنصرية ناحية شخص وتقتله مع إنه ممكن يكون أحسن منك في كل حاجة.. بلاش عنصرية.. بلاش تمييز.. بلاش تفرقة.. شوية رفق على شوية تقدير لـ الظروف اللي أنت مش شايفها متحاوطين بحبة رحمة المركب هتمشي.. أي "حنين" قادر يخطف حتة من قلبك غصب عنك.. مش بالمظهر ولا بالسن ولا بعِشرة السنين.. بالقلوب والحنية والمواقف وبس.. النبي "محمد" ﷺ قال: (من أُعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير).