كأس العالم الإسلامي.. هل تدفع قطر الثمن؟
ما فعلته قطر هو جرأة بكل معاجم اللغة.. أن تُصدِّر الإسلام بهذه القوة في أهم حدث يتابعه العالم كله جرأة، ولكن هل هي جرأة محسوبة العواقب؟ أعتقد أنها مثل الانشطار النووي، عندما كان خارج السيطرة والتحكم فيه، لماذا؟ لأن الغرب لن يقبل أن تكون للمثل والمبادئ والشعارات (مهما آمن بها، وروَّج لها) أي علاقة بالإسلام تحديدًا. فهم يحترمون جميع عُبَّاد الخشب والحجر والبقر، ويقبلون جزءًا طفيفًا من الإسلام على مَضَض، ولكن بهذا الشكل الذي ظهر في مونديال قطر فـ "لا وألف لا"، ولن يمر الأمر دون استثماره بشكل يفوق استثمار 11 سبتمبر، لماذا؟ لأن الخطر الوحيد والمهدد الحقيقي للغرب هو الإسلام. (هذا كلامهم هم؛ فهم أصدق منا) لماذا؟ لأنه يقتحمهم في عقر دارهم، وهم المستعمرون للعالم؛ لذا فهم يسخِّرون آلاتهم الإعلامية والهوليودية للترويج بأن الإسلام هو دين الخيمة والجمل والسيف والجواري.
وعندما تنشر قطر في كل مكان أن الإسلام دين الرحمة والعدل والتقدم والرفاهية فهذا مضاد لمنهجهم. وسواء قدمت قطر برنامجها الإعلامي للتسويق والاتجار، أو لأغراض أخرى، فهو في جميع الأحوال سيقابل بهجمة مرتدة غاية في القوة.
ورغم أن الكثيرين فوجئوا بهذا الأمر، إلا أن المتابع لمناهج قطر يدرك تمامًا أن الإسلام في جميع مقررات التعليم حتى الجامعي، وأنهم يقدمون رموزنا المصرية في مناهجهم؛ ليقتدوا بهم (آه والله العظيم).
من حق قطر أن تروج لثقافتها في هذا المحفل الذي لن يتكرر، وأيضًا من حق الغرب أن يدافع عن ثقافته؛ لأن الإسلام الثقافة الوحيدة التي وضعها الغرب في الاتجاه المعاكس له؛ لذا فإن المباراة لم تنتهِ، ولكنها بدأت، وقبل صافرة النهاية سنرى العجب.
البطولة الآن انتقلت إلى خارج المربع الأخضر.. المنافسة تحولت من ماراثون رياضي إلى ريمونتادا حضارات.. صراع جذوره ضاربة عبر قرون عميقة، والغرب لديه من الخبرة القتالية وحنكة المناورات في جميع المجالات ما لا نقوى عليه.
الحروب والحرائق تشتعل من جذوة صغيرة، وقطر أوقدتها بشعلة ضخمة، غرستها في كل مكان، أشعلتها بعد أن ضمنت الحضور الجماهيري الضخم، الذي مرغمًا سيتابع كل فاعلياتها الإسلامية طوال البطولة.
لا يعني عنترية قطر أنها صارت منبر الإسلام وقبلة المسلمين، لا قبل ولا بعد فعلتها؛ فالجميع يعلم أن الخمور وأمورًا أخرى منتشرة بها، وكلنا نعرف كم دفعت للحصول على تنظيم البطولة وكم أنفقت في البنية التحتية للمونديال، كما أننا جميعًا نعلم أن الابن غير الأب، الذي انقلب عليه، وأطاح به.. كل هذا معلوم من السياسة بضرورة، ولكن الدافع والنتيجة لما فعلته قطر الله وحده يعلمه.
هي قطفت القطفة الأولى بأن تصدرت المشهد العالمي، وأشعلت صحف وقنوات ومواقع التواصل بالعالم. أما عنا نحن، أكثر الشعوب التي أتعبت قلب مارك وماسك، فلا موقع لنا في كل هذه الأمور، فلا نحن نظمنا المونديال، بعد حصولنا على صفر مع مرتبة الشرف، ولا حتى لنا لاعبون في البطولة، فاستعضنانها ببطولة البوستات على مواقع التواصل؛ لنعيش دور الفوارس المغوارة، ونستبق الهجوم قبل الغرب، الذي يتأنَّى الآن، ويدبر ويدير المباراة.
ورغم أننا نحن من صدَّرنا للعالم الفكرة السلبية عن الإسلام، إلا أننا الآن نكشف النوايا والاتجار بالإسلام واللعب على أوتار المشاعر، ذلك الكلام المستهلك من الملحدين، ولو سلمنا بأن قطر تتاجر بالإسلام، أليس هذا أهون من مهاجمة الإسلام؟! فنحن من أول من أطلق لفظ الإرهاب عليه، وليس الغرب، (واسألوا المرحوم)، ونحن من نتهجم عليه، ونتواقح بدعوى التوعية فالتجديد فالانتقاء فالتطوير فالهدم فالتفسير، ثم انتقلنا ميدانيًّا إلى تسفيه العلماء، واستبدالهم بالسفهاء من الأشكال الكِلحة البصمجية، التي قامت بالتشويش والتلويث بخبثهم وخبائثهم؛ ومن ثم تركنا الساحات، فوجدت قطر المساحات، فلم تفوِّتها فرصةً، وقامت بتلك الهجمة التي كشفت مرمانا.
ونحن لا نزال مُدجَّنين ومُهجَّنين بهمجية المرأة الندَّابة.. فبدل أن نقف في صف ثقافتنا وديننا، نتطوع نيابةً عن الغرب بالهجوم عليه.. أتدرون ماذا يفعل الغرب الآن المالك الحصري للهجوم على الإسلام؟ إنه يكرر ما فعله المستشرقون، يعيد ويتفحص في قراءة ثقافة قطر ودماغ ونفسية الحاكم، وتحركات فريقه؛ لكي يكسبوا المباراة وبأكبر نتيجة.
ليت إخواننا الكتِّيبة الفلاسفة المنظرين يقلدونهم في هذا، كما يقلدونهم في الموضة والتفاهة، فيقرءون شيئًا عن قطر قبل رمي الكلام الفاضح لجهلهم.. فقطر مثلًا قبل أن تنفق الـ 220 مليار دولار، استكتبت خبراء الاقتصاد، وهم لقَّنوها الجدوى الاقتصادية من تنظيم المونديال، ثم بسَّطت هذه الدراسات، وقررتها في مناهج الطلاب، وعلمتهم كيف يستثمرون بمنهجية علمية، وكيف يسوِّقون لأنفسهم، فهي إذًا لا تتحرك بعشوائية كما يتوهم تنابلة السوشيال.
سأوفر عليكم همَّ البحث (الذي لن تفعلوه)، وأقدم جزءًا بسيطًا من دراساتهم بالأرقام:
هم قدَّروا زُوَّار قطر في كأس العالم بـ 1.5 مليون مشجع، لن يكتفوا بدفع تذاكر المباريات طبعًا، وتوقعت الحكومة القطرية أن النمو الاقتصادي سيبلغ 4.4%، وأن الأنشطة الاقتصادية المصاحبة للبطولة والإنفاق السياحي سيضيفان حوالي 1.5% للناتج المحلي، وقُدِّرت هذه النسبة بـ 7.5 مليار دولار. وتهدف الحكومة القطرية لاستثمار هذا الحدث الفريد بأن يصل السائحون لـ 3 أضعافهم، بحيث يصبحون سنويًّا 6 ملايين سائح بحلول 2030. وبالرجوع لأرقام آخر بطولة، وما حققه الاتحاد الدولي لكرة القدم، وهو مؤسسة غير ربحية، سنجد أن الفيفا حققت 5.4 مليار دولار من كأس العالم 2018، وهذا الرقم يمثل زيادة 16% عن بطولة 2014، كما حققت من حقوق البث 3 مليارات دولار.
قطر استقطبت كبرى الشركات والماركات العالمية إليها، وأتاحت لها إغراءات ستعود عليها وعلى الدولة بأرباح ضخمة.. قطر لديها مشروع لتحويل ضيوفها من كافة أنحاء العالم من جمهور كرة قدم مرحلي إلى سُيَّاح موسميين، بعدما وفرت لهم رفاهية فوق ما كانوا يتخيلون.
قطر تنفق لتجني، وتريد أن تقول للعالم إنها صاحبة شخصية وقرار، شخصية في تصميم الملاعب على طراز يجمع بين الأصالة والحداثة، والقرار في جرأتها التي أحسبها هوجاء.. باللافتات والفعاليات الإسلامية. وظني أن هذا الشيء لم تفعله عشوائيًّا، وإنما عن دراسة أيضًا، ولكن هذه الدراسة شيء، والواقع شيء آخر، ومهما قلنا وحزَّرنا ونظَّرنا، فالكلمة الأخيرة أن “الملعب هو اللي هيحكم”.