العودة من الموت.. و«تزاور الأرواح»
نتحدث اليوم عن تزاور الأرواح وتلاقي عالم الغيب بعالم الشهادة، فكم من ابن رأى أباه المتوفى في المنام فنصحه بأمور هامة، وكم من شهيد زار أمه في الرؤيا فطمأنها وأسعدها.
فلا يخلو أحد منا إلا وقد حدثت له مثل تلك الخوارق والتي شرحها الشيخ محمد أبو النور، من خلال كتابه العودة من الموت سرها، وسأعرضها لكم خلال السطور في مقالي هذا.
ما أجمل المتع التي ينعم الله بها علينا في عالم البرزخ، حيث يصبح بمقدورك أن ترى من كنت تسمع عنهم من الأنبياء والمرسلين وأولياء الله الصالحين، ويمكنك رؤية النبي إبراهيم، وأن تصحب النبي موسى، وتحادث السيد المسيح، وأن تكحل عينيك برؤية سيد المرسلين سيدنا محمد صل الله عليه وسلم.
وكفى نعيما أن هذا التلاقي يكون روحانيا صرفا، مجردا من الأعباء الدنيوية، فمن كان يجتمع بالأنبياء في عالم الدنيا كان يسعد بصحبتهم، ولكنه كان يتألم بما يلاقوه من بلاء مقدر عليهم ممن لا يؤمنون بهم ويضمرون لهم الشر والكراهية الشديدة، أما اللقاء مع الأنبياء في عالم البرزخ فهو لقاء أنس لا هم فيه ولا مكدر له، حيث تكون الجلسة معهم في راحة لا تعب فيها، ولا هم لهم سوي التلذذ بتذوق طعم الأرواح الراضية المرضية، وانكشاف العلوم الربانية، والتبحر في العلوم الإلهية والنظر إلى وجه الله الكريم.
ومن أكبر النعم في عالم البرزخ أن روح المؤمن تستطيع أن تلتقي بأرواح من يحبهم ممن سبقوه إلى الدار الأخرة، فيقابل أرواح أبويه، مشايخه أجداده، أصدقائه الذين توفوا قبله فيأنس بهم ويستأنسون به ويبشرونه بما ينتظره من النعيم والفرح الإلهي.
وينعم الله - عز وجل - على عباده الصالحين بأنه يعطيهم القدرة والمقدرة على العبور من عالم الموت إلى عالم الدنيا، حيث يجتاز البرازخ وتقابل روح من تريد في عالم المنام، لأنه في عالم المنام تعرج أرواح النائمين إلى الله ويتوفى الله هذه الأرواح بما يعرف بالموتة الصغرى.
وبهذه الموتة في المنام تحدث المجانسة فتسطيع روح الميت أن تقابل روح الحي، لأن الأرواح جنود مجندة فما تشابه منها ائتلف، ولا بد أن تحدث المجانسة والمشابهة أولا كي يتم التلاقي، وهذا لا يتم إلا بعروج أرواح النائمين ومرورها بعالم البرزخ، والذي يفصل بين الحياة والموت فتحدث لها الموتة الصغرى.
وهنا تستطيع الأرواح النائمة أن تلتقي بأرواح الأموات الساكنين في عالم البرزخ، وكل ذلك موكول إلى ملك يسمى ملك الرؤيا، وقد وكله الله بهذا الأمر.
وقال رسول الله صل الله عليه وسلم، تعرج الأرواح في منامها إلى السماء، فتؤمر بالسجود عند العرش، فمن كان طاهرا يسجد تحت العرش، ومن ليس بطاهر سجد بعيدا عن العرش، وهنا تقابل روح الرجل الصالح المتوفى روح تلميذه مثلا، فترشده إلى خير أو تدله على حق أو تجيبه على علم، فيقوم المريد من نومه مسرورا منشرحا، ويقول لقد رأيت شيخي في الرؤيا فسألته عن كذا وأجابني بكذا، أو بشرني بما عند الله، أو نبهني للأمر الفلاني الذي كان غائبا عني.
وهناك أيضا من الأرواح أرواح الشهداء، وهذه تكون على صورة طيور خضر بديعة الجمال يلمع ريشها السندسي في بريق أشعة جمال الذات، لها وجوه إن دققت النظر فيها عرفت أنها وجوه بشرية أصحابها من أهل النعيم.
وتطير أرواحهم فوق أشجار الجنة ذات السيقان الذهبية والفضية، وتأكل من ثمارها التي تخطف الأبصار من روعة جمالها وألوانها، بل وتسكر الأرواح من نسيم عبير رائحتها، مسكية لاوندية عنبرية.
وتحلق تلك الطيور الروحانية مغردة بتسابيح لربها، لها أصوات شجية، ومدائح علوية ومزامير سماوية كأنها تراتيل الملائكة وترانيم أهل الحضرة القدسية، ولو سمعها إنسان على وجه الأرض لعاش مجذوبا قد فقد عقله من شدة حلاوة رنتها وعذوبة لحنها.
وتهبط تلك الطيور على سطح الأنهار الجارية وعيون السلسبيل التي كان مزاجها كافورا، فتشرب من عسلها وترتشف من رحيقها المعنبر.
وتسمى هذه الأرواح السعيدة في عالم الملكوت الأرواح الفرحة، وذلك لأنها تضفي سعادة وفرحة على كل من يقابلها في الملأ الأعلى سواء كان من الآدميين أو الملائكة.
وأرواح الشهداء أعطاها المولى عز وجل الحق في أن تطير وتعبر كل الجنان بلا تقييد بمنزلة، ثم تأوي في الجنة إلى قناديل نور ذهبي معلق في سقف العرش، تتدلي منه سلاسل من اللؤلؤ تهتز تلك القناديل النورانية الذهبية كلما وقف عليها طائر مغردا وكأنما تتمايل طربا من تسبيح جلال الله.
فسبحان الله العلي القدير على كل ما وهب به أولياءه الصالحين وعباده المحبين له من نعم ومتاع في الآخرة، وجنات تجري من تحتها الأنهار.
إن ما يصفه الشيخ محمد أبو النور في كتابه العودة من الموت، أشياء مدهشة ولا تخطر على عقولنا، يتمنى الواحد منا أنه لو كان مثل أحدهم يظفر بأقل القليل مما يحصلون عليه من جوائز رب العالمين إليهم في جنة الخلد.