2023.. عام القلق
انتهى عام 2022... عام اكتسب صفة المفصلية، حيث إن ما قبله لن يكون أبدًا مثل ما بعده... عام شهد بداية تغيرات كبيرة أصابت النظام الدولي تمثّلت في عودة ما يُسمى بصراع القوى الكبرى بعد أن كان قد تلاشى مع انتهاء الحرب الباردة بانتصار المعسكر الغربي وانهيار الاتحاد السوفيتي... ولكن لعل مرارة الأحادية القطبية الأمريكية الناجمة عن نتائج الحرب الباردة هي أحد العوامل الأساسية المحفزة لما يشهده العالم اليوم من تجلي جديد للصراع بالوكالة بين القوى الكبرى قد يتحول في أي لحظة إلى صراع مباشر يجهز على الإنسانية.
كان لهذه الصراعات إرهاصات على مدار العقد الماضي، تمثّلت في توترات بحر الصين الجنوبي والكوريتين والفوضى في الشرق الأوسط الناجمة عن التدخلات الأمريكية في أفغانستان والعراق ونووي إيران والربيع العربي وما تلاه من صراعات جلبت القوى الدولية للتواجد في المنطقة بشكل تنافسي في دول كسوريا وليبيا... ثم انتقال التوتر إلى عقر الدار الأوروبي بأزمة القرم في 2014 وصراع الدونباس الذي أجّج العلاقات الروسية الغربية.
جميع بؤر التوتر هذه، أصبحت قنابل موقوته وانفجرت إحداها في مطلع 2022 مع بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، لتشهد أوروبا صراعًا مسلحًا مفتوحًا لم تشهد له مثيلًا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، صراع تحول إلى حرب مفتوحة غير مباشرة بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة وروسيا، حيث إن حلف شمال الأطلسي يقاتل روسيا ويستنزفها بكل قدراته التقليدية من خلال تسليح أوكرانيا، وتقديم كافة سبل الدعم لها عسكريًّا وماليًّا لتصمد أمام الضربات الروسية ما أدى إلى طول أمد الحرب... وعلى الجانب الآخر، تخلى الغرب عن مفاهيم قدسية الملكية الشخصية والسوق الحرة وسيادة القانون وفرض سلسة عقوبات غير مسبوقة على روسيا بهدف تعجيزها اقتصاديًّا، ومن جانبها استغلت روسيا وضعها كأحد أكبر مصدري الطاقة في العالم عبر قطع أغلب إمدادات الغاز والنفط لأوروبا، ما أدخلها في أزمة اقتصادية مرعبة تهدد رفاهية الحياة الأوروبية في الصميم... ولكون روسيا وأوكرانيا من أكبر سلّات الغذاء في العالم، تسببت الحرب والعقوبات في أزمة حبوب وأسمدة في أوروبا وإفريقيا تهدد العالم بخطر المجاعات... كل هذه العوامل أدت إلى موجة تضخمية عالمية، وأزمة في سلاسل الإمداد وضعف الإنتاج بالدول الصناعية وارتفاع في أسعار الطاقة، وكل ذلك يحدث باقتصاد عالمي لم يتعافَ بعد من التداعيات الكارثية لجائحة كورونا التي لم تنتهِ بعد.
في ضوء هذه التوترات المقلقة، يصبح 2023 عامًا محفوفًا بالمخاطر، حيث إن الحرب الروسية الأوكرانية لم تظهر لها أي بوادر للتسوية السلمية، ومع استمرار الحرب يتزايد الاستقطاب العالمي ومعه مخاطر الصراع المباشر بين روسيا والغرب، والتوتر الأوروبي لا ينحصر في أوكرانيا فقط، حيث إن الأوضاع في البلقان تنذر بما لا يحمد عقباه، فقد تزايدت حدة التوتر بين صربيا وكوسوفو بسبب أوضاع الأقلية الصربية في الأخيرة، توتر جاء إثر اضطرابات يشهدها شمال كوسوفو ذو الأغلبية الصربية، حيث هددت بلغراد بالتدخل لحماية مواطنيها في كوسوفو التي لا تزال تعتبرها جزءًا من الوطن الصربي وحشدت قواتها العسكرية على الحدود، في حين حذّر حلف الناتو صربيا من مغبة القيام بأي عمل عدائي علمًا أن صربيا تعتبر إحدى الدول الصديقة لموسكو وتتمتع بدعم روسي كبير في قضية كوسوفو.. إذا تفاقمت الأمور ووقعت الحرب بين صربيا وكوسوفو في 2023، سيزيد ذلك من رقعة الصراع بالوكالة بين روسيا والغرب ليصل إلى دول البلقان ويؤجج من حدة التوتر القائم بالفعل..
على خلفية تايوان، تصاعدت حدة التوتر الصيني الأمريكي بسبب تعهد الرئيس بايدن بالتدخل عسكريًّا للدفاع عن تايوان في حال تعرضت لغزو على غرار أوكرانيا.. والصين من جانبها، تتمسك بمبدأ الصين الواحدة وتعهدت بتوحيد تايوان مع الصين بالقوة إذا استدعى الأمر.. ومنذ أيام، أعلنت الولايات المتحدة عن تقديم حزمة عسكرية كبيرة لتايوان خلال 2023 لتعزيز قدراتها الدفاعية ما أثار حفيظة الصين.. من جانبها، تتحدى الصين الولايات المتحدة عبر التقارب المتزايد مع روسيا ودعمها غير المعلن للجهود الحربية الروسية في أوكرانيا عبر تقديم الدعم الاقتصادي لموسكو لتتمكن من تحمل وتجاوز آثار العقوبات الغربية.. يؤشر ذلك إلى بوادر تشكل كتلة روسية صينية في مواجهة الولايات المتحدة وإنهاء تفردها بالهيمنة على المشهد الدولي.. تزيد هذه العوامل من الاستقطاب، وتظل إمكانية نشوب حرب بين الصين وتايوان واردة في 2023 وإن لم تكن محبذة في الوقت الحالي، حيث إن الخبراء يميلون إلى ترجيح هجوم صيني على تايوان خلال السنوات الخمس المقبلة ولكن مثلما هو الحال في أوكرانيا الحرب تأتي عندما تأتي ومن المستحيل الجزم بموعد محدد لمتى تبدأ ومتى تنتهي.. ولذلك تظل تايوان أحد النقاط الساخنة التي ينظر إليها العالم بقلق شديد.
في الشرق الأوسط، فشلت مساعي الولايات المتحدة إلى الوصول لاتفاق مع إيران حول برنامجها النووي، ما أدى إلى تصاعد حدة التوتر بينهما خاصة مع إقدام إيران على تخصيب اليورانيوم بنسب أعلى مما مضى في استفزاز واضح لواشنطن وتل أبيب.. وإيران قدّمت دعمًا واضحًا وصريحًا لروسيا في حربها على أوكرانيا، عبر إمدادها بالطائرات المسيّرة الانتحارية التي ساهمت في عودة التفوق الروسي الميداني في الصراع واعتبرت الولايات المتحدة ذلك مؤشرًا خطيرًا وتزايدًا للنفوذ الروسي في المنطقة... أما الدول العربية بقيادة المملكة العربية السعودية والإمارات ومصر فقد أنت بنفسها عن الانخراط في الصراع الروسي الغربي ورفضت توقيع عقوبات أحادية على موسكو.. دول الخليج رفضت زيادة إنتاج النفط بغرض خفض أسعاره لضرب الاقتصاد الروسي والتزمت بتوافقات آلية أوبك بلس التي تضم روسيا ما استفز الولايات المتحدة.. واستقبل الزعماء العرب في الرياض الرئيس الصيني تشي جينج بينج في قمة عربية صينية هي الأولى من نوعها حيث أعلنت بكين من خلالها دخول منطقة الشرق الأوسط كلاعب رئيسي منافس للولايات المتحدة التي يتراجع دورها رويدًا رويدًا.
وفي سياق متصل مع بوادر المصالحة المصرية التركية والحوار السعودي الإيراني بوساطة عراقية، يبدو أن دول المنطقة تسعى إلى تنحية الخلافات جانبًا لوضع رؤية توافقية لكيفية مواجهة عالم أصبحت تسوده الفوضى بسبب صراعات القوى الكبرى التي لم تترك قارة أو منطقة دون إيجاد صيغة للتنافس والتوتر، وفي بعض الأحيان الصراع المسلح.
بمعنى آخر أدركت دول المنطقة، أن مراعاة المصالح المشتركة بشكل توافقي مصطحب بتنسيق للمواقف المنضبطة التي لا تجرها إلى أتون الصراع القائم هو النسق الأفضل للتعاطي مع ما يشهده العالم من فوضى ولعل 2023 ستشهد بلورة أكثر وضوحًا لهذه الجهود إذا كتب الله لها الاستمرار.
2023 ملامحها صعبة تميل إلى القبح.. وعلى الأرجح ستكون امتدادًا لما يشهده عام 2022 من توتر وصراعات بين الغرب من جانب وروسيا والصين على الجانب الآخر.. هل سيصل الجميع إلى صيغة جديدة لتفاهمات تعيد توزيع موازين القوى العالمية بشكل أكثر عدالة؟ أم سيستمر الانحدار الأفقي للهاوية حتى تندلع حرب عالمية جديدة؟ أسئلة قد لا تملك 2023 إجاباتها بالكامل حتى الآن ولكنها بالتأكيد ستأتينا بالمؤشرات التي ستحدد إلى أي الوجهتين سيتجه العالم.