قراءة في الوضع الاقتصادي (1)
لا أظن أن هناك خلافًا حول نقاط الخلل في اقتصادنا الوطني، فمهما اختلفت خبرات ودراسات وتفضيلات المُقيمين؛ لن تخرج هذه النقاط عن الإشارة إلى تضخم الديون، وعدم القدرة على جذب الاستثمارات وضعف المنتج المحلي، بما أوصلنا إلى عدم القدرة على توفير العملة الأجنبية لاستيراد ما ينقصنا.
الاشكالية ليست إطلاقا في تحديد المشكلات أو أسبابها، ولكن في رؤية وآليات الحل ومراحله وأولوياته، ومدى القدرة على احتمال تبعاته والفترة المطلوبة لتطبيقه، والموازنة مع متطلبات السياسة بالطبع.
وفي يقيني، فإن الأزمة التي نمر بها الآن، ليست وليدة الظرف العالمي وحده وإن كان له دورا فيها، لكنها نتاج عدم التعامل برؤية موحدة - على مدار عقود طويلة، مع أزمات الاقتصاد الوطني التي لم تتغير بالمناسبة، لكنها لم تكن بنفس حدتها الحالية أو تأثيرها.
تحدثت سابقا أن لبّ أزمتنا، هو الاهتمام فقط بالاقتصاد التمويلي المعني بجذب رؤوس أموال أجنبية بشكل سريع، للحصول على نسب فائدة مرتفع وفقط، دون إعطاء الأولوية والدعم الكافي للاقتصاد التشغيلي القائم على إنتاج وتجارة وخدمات ودعم منتج محلي.
الوضع الاقتصادي
فالأخير «التشغيلي» بالطبع ليس سهلا أو سريع التطبيق، ويحتاج إلى إصلاحات هيكلية تُسهم في إجتذاب رؤوس أموال أجنبية تدخل في نطاق التشغيل، على عكس الأول «التمويلي» الذي قد يصدر صورة طيبة ومؤقتة عن الاقتصاد دون تحسن حقيقي، وهو ما بدا واضحا في أزمتنا الحالية بخروج الأموال الساخنة.
وهنا يظل السؤال الواجب طرحه.. لماذا الحل التشغيلي عطلان؟ لماذا بعد كل ما تم من تطوير للبنية التحتية وحل أزمات الطاقة، لا يوجد استثمارا أجنبيًا مباشرًا FDI؟، ولماذا كل حلولنا حاليا تدور في فلك سد فجوة التمويل financing gap؟
ومن ذلك بالطبع ما تم مؤخرا من رفع سعر الفائدة إلى 25% على الودائع، فرغم أن هذا القرار يحتاج وقفة مطولة تخصه فقط، إلا أنه بشكل مبسط نتيجته تكمن في أن كلفة رأس المال تخطت حاليا ال 30%، وهو ما سيحدث مشقة بالغة في تحقيق أي نمو صناعي.
أكثر تبسيطًا.. البنوك تعطي 25% على الودائع، بما يعني أن أصحاب الأعمال مطلوب منهم تحقيق ربح أعلى من 30% سنويا من قيمة رأس المال، حتى يكون هناك داعٍ لتشغيل أموالهم وإلا فليريحوا بالهم ويضعوا أموالهم في البنوك بتبعات كارثية على الاقتصاد.
فالمشكلة ليست كامنة في «تعويم» أو «شهادات»، لأنها في الواقع آليات لضبط الاقتصاد وليست غايات، خاصة أن 2023 لا يبدو نهاية الأزمة بوجود حقائق تشير إلى 40 مليار أقساط، و30 مليار عجز تجاري، و15 مليار صافي أصول بنكية بالسالب و10 مليار بضائع مُنتظرة من 2022، بفجوة تمويلية من 15 - 18 مليار.
كما أن منظومة تشجيع الاستثمار الأجنبي في الحقيقة تحتاج إلى عملية انقلاب سريع وتام، لأن لها دور أساسي في أزمتنا خاصة وأن المبادرات التي تم إطلاقها في العقد الأخير أثبت عدم جدواها لأنها لم تمس أسباب المعاناة واعتمدت على نفس الآليات الموصومة بالبيروقراطية.
لست من الراغبين في تسويد المشهد، لكن في الحقيقة نحتاج الكثير لنغير هذه الأوضاع التي أرهقت اقتصاد الدولة والمواطن، لدرجة قد لا تحتمل المزيد، وبالطبع التأخر في الحلول الحقيقية يزيد الأزمة بشكل مبالغ ويضعنا في تحديات لن نتحملها.
وصراحة، فإن الأزمة لن تزول بسهولة، ولا يُعقل أن نتخيل أن قرار بعينه أو قرض من صندوق النقد الدولي أو منحة من دولة صديقة، قد يحسن من حال اقتصادنا بين عشية وضحاها.
الغريب أن الحكومة في كل مرة تسلك نفس المسار، وتعتقد أن النتيجة على المدى المتوسط قد تختلف، بما يؤكد أن الحل ليس في نفس الآليات التقليدية التي لم تعد مناسبة إطلاقا لوضعنا المتأزم، بل على العكس الإصرار عليها سوف يجرنا إلى طريق يبدو أكثر تأزمًا.
فلا بديل عن إستراتيجية واضحة المعالم نحو اقتصاد تشغيلي حقيقي مهما بلغت الصعوبات في سبيله.. اقتصاد تشغيلي جاذب وداعم للاستثمار الخاص.. اقتصاد تشغيلي يهتم في المقام الأول بسد الفجوة بين مواردنا ومتطلباتتا، بين ما ننتجه وبين ما نستورده.
قد يكون هذا التوجه صعبًا وفي الحقيقة هو كذلك وله فاتورة، لكن مهما بلغت لن تصل إلى الفاتورة التي دفعناها كدولة أو مواطن في سبيل سياسات تمويلية أثبتت فشلها في حماية اقتصادنا الوطني، وخلقت حالة استقرار وهمية لم تدم طويلًا، ومن غير المعقول أن نعيد نفس الحلول لننتظر نتائج مختلفة.