العودة من الموت.. وصورتك في «البرزخ»
تحدثنا في المقال السابق عن تزاور الأرواح وتلاقي عالم الغيب بعالم الشهادة، ومنزلة الشهداء وكيف تظهر في صورة طيور خضراء بديعة الجمال، وكيف وصف كتاب «العودة من الموت» للشيخ محمد أبو النور، كل ذلك بدقة وكأنك تعيش وسط كل هذا الجمال والإعجاز الرباني.
واليوم نتحدث عن كيف ستكون صورتك في البرزخ، وأين سيكون مكانك في البرزخ؟!
قد يظن الكثيرون أن الانتقال إلى عالم البرزخ يتطلب عبور مكان ومسافات شاسعة كي يصل إلى البرزخ، وأن البرزخ يوجد هناك في السماء وهذا الأمر غير صحيح علي الإطلاق.
فهل تعلم أنك تزور البرزخ أكثر من مرة في يومك وليلتك وأنت لا تشعر!
وكشف هذا السر قد أشار إليه القرآن الكريم، وكلام الرسول صل الله عليه وسلم لمن يعرف غطاء الحروف وينظر إلى ما تحتها من المعاني، فاعلم أنك إذا تخيلت أمرا ما فإنك نظرك الروحي يمتد إلى البرزخ فيجول في أطرافه وأنت لا تدري، بل إنك بمجرد أن تنام فقد دخلت إلى البرزخ وهو الغيب الفاصل بين عالم الدنيا وعالم الأخرة، والذي يموت ويدفن هو في الحقيقة يدفن في الأرض بعد أن عاش على ظهرها، يعني مجرد شبر فصله عن الأحياء، ومع ذلك هو في البرزخ، فالبرزخ قريب جدا ولا يحتاج إلى عبور مسافات للوصول إليه.
فأنت بمقدورك أن تدخل إليه وأنت في مكانك بغمضة عين أو بجولة فكر أو بخطفة روح.
فمن يظن أنه بعيدا «هناك» أقول له لا يوجد «هناك»، وإنما «هناك» هنا.
ولذلك كان التعبير القرآني (ومن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)، كان تعبيرا في غاية الدقة، حيث أشار الحق إلى أن البرزخ «وراءك» وليس «أمامك» فقد أتيت منه وهو في ظهرك دائما، وليس بعيدا عنك حتى تنتظره أو تظن أن بينك وبينه ُبعد المشرقين.
ويقول النبي صل الله عليه وسلم، في نفس المعنى: (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك)، لذلك فالبرزخ أقرب إليك من النعل الذي في قدميك.
أما صورتك في البرزخ، كيف كانت؟!، وكيف ستكون؟!، فاعلم أن الله قد خلق روح الإنسان بطبيعتها مدبرة لصورة حسية، ولذلك فهي إذا تجردت لا بد لها أن تطلب صورة تتجسد فيها وتدبرها، لتظهر من خلالها، فأول صورة لبستها كانت هي الصورة التي خلقها الله لها في «عالم الذر» عند أخذ الميثاق وهي الصورة التي رأي فيها آدم ابنه داود، مع أن داود لم يكن قد ولد بعد، ولم يخلق له جسد، فإن دل ذلك دل على أن كل الأرواح في هذا المشهد كانت لها صور أولية تحاكي أجسامهم التي خلقت لهم، ولكنها ليست هي ذاتها حيث إنهم لم يكونوا قد ولدوا بعد، ولا أتوا إلى عالم الدنيا.
ثم بعد ذلك ظهرت روح الإنسي في صورة جسمه الذي ولد له في عالم الدنيا، حيث حبست روحه في هذا الجسد في الشهر الرابع من تكوينه جنينا وهو في رحم الأم.
وتظل روحه محشورة في هذا الجسد حتى يأتي الموت، وعند الموت تتحرر الروح من الجسم، وتدخل في صورة أخرى قد أنشأها الله لها في عالم البرزخ، ولكنها ليست صورة حسية بقدر ما هي معنوية، كمثال ما يرى النائم في منامه شخصا يعرفه برغم أن صورته قد تكون في الرؤيا مغايرة ومختلفة عن صورته التي يعرفها في اليقظة، ولكنه في ذات الرؤيا يدرك يقينا بغير شك إدراكا ذاتيا أن هذ الشخص هو فلان ابن فلان بعينه.
وهذه الصور التي تكون في البرزخ كمثال الطيور الخضر التي تتجسد فيها أروح الشهداء، وكمثال الصورة التي رأي فيها رسول الله، صل الله عليه وسلم، موسى - عليه السلام- حيث قال: رأيت موسي وإبراهيم وعيسي.
ثم وصف موسي قائلا: أَتَيْتُ عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ.
وكذلك مثال الأنبياء الذين رآهم النبي مجتمعين في الإسراء في بيت المقدس، وصلى بهم إماما فإنه رأى صورهم في البرزخية، لأنه معلوم أن أجسادهم ترقد في القبور.
وكذلك صور الأنبياء الذين رآهم في المعراج، في كل سماء مكللة بالبهاء والجمال والنور.
فروحك كذلك في البرزخ سوف يخلق الله لها صورة برزخية ليست من عالم الدنيا ويكون جمالها وصفاؤها على قدر عملك وثوابك ودرجتك عند الله.
ولذلك قد ترى في منامك الميت المؤمن في صورة حسنة وعافية رغم تعبه ومرضه في الدنيا، وبالعكس يكون الفاجر في الدنيا في قوة وعافية ولكنه يشاهد في المنام قبيحا متعبا وهذه هي صورهم البرزخية.
ويبقى الوضع هكذا حتى تأتي مرحلة البعث، فإن عالم الصور فيه أحكام وأسرار أخرى عظيمة.
وعند قرب انتهاء مدة البرزخ ودنو قيام القيامة، تشعر الأرواح الطيبة بأنها قد استوفت علومها ونعيمها من عالم البرزخ بأنواره الكثيفة وهلاميته الروحية، وأنها عبر آلاف السنين قد حصلت على ما يشبعها من حياة القبور فيتملكها الشوق للواقع الملموس وإلي الجسد مرة أخري.
فالبرزخ هو عالم معنوي أكثر منه حسي، والأمور فيه متغيرة تغير سريع أسرع من البرق، وصور الأعمال فيه مجسدة، ومازالت مرحلة دخول الجنة الحقيقية العينية لم تأت بالنسبة لهم، كما أنهم يشتاقون لنيل درجاتهم التي هم فيها بالروح فقط، ويتمنون أن تكون روحا وجسدا، كيانا حقيقيا لا هلاميا كالبرزخ، ولا زائلا ضعيفا كالدنيا.
والمؤمن في قبره، يشتاق إلى لقاء أهله وذريته ويتمنى أن تقوم القيامة وينادي ربه: «رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي»، لأن لقاءه بهم في عالم البرزخ قد يكون خطفات عابرة من الزمن.
وعند قيام الساعة يأمر الملك إسرافيل بالنفخ في الصور، والصور هو ذلك القرن الذي توجد في فتحته كل عالم البرزخ الذي نتحدث عنه، وسمي بالصور لأن فيه كل الصور التي كانت تسكنها الأرواح والتي ستحيا مرة أخرى.
وعندما تصل النفخة إلى البرزخ، تتطاير كل روح من خليتها وتنتشر العماء كأنها جراد منتشر، فتدخل كل روح إلي صورة جسدها لا تخطئه، فلا تدخل روح في صورة تخص روح أخرى.
ولكن شتان بين روح كان مسكنها في «سجين»، وروح كان مسكنها في «عليين».