انتصار الاسم
تمتلك المغالطات القدرة على الالتفاف بشكل فعال، للدرجة التي تجعل العقول عالقة في دهاليز الخيانات الذهنية والتورط في المعنى، دون أن يكون لذلك قيمة على أرض الواقع، ظنًّا بأنها دفاعًا طبيعيًا يتطلبه الموقف، وربما لاعتقاد خاطئ بامتلاك ناصية الصواب، رغم أن الطبيعة لا تُقاس بمقدار تصورنا لها كما يقول لابلاس.
في مقدمة كتابه قراصنة وأباطرة يروي الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي قصة نقلها عن القديس أوغسطين، عندما سأل الإسكندر الأكبر قرصانا وقع في أسره، كيف تجرؤ على إزعاج البحر؟ أجاب القرصان: أنا أفعل ذلك بسفينة صغيرة وحسب، وادعى لصا، أما أنت.. فتفعل ذلك بأسطول ضخم وتدعى إمبراطورا.
هي مغالطة إذن، إذ لا يمكن للمرء أن يسجل إجابته بحيادية تامة وهو مسجون في شرنقته، غير قادر على أن يرى الحقيقة في سياقها الصحيح.
في التأليف البشري يبدو الأمر قريبا جدا من قصة القديس أوغسطين، ربما لأن الصلة بين المؤلف وكتابه قد ازدادت شدة وتعقيدا، وأصبح للمؤلف سلطة على الاسم والعنوان والغلاف والنص، وعلى هذا أصبح التأليف إبداعا وعملا وبضاعة وعقدا وملكية، وبالتالي توجَّب على المؤلف أن يضع لنفسه خطا مميزا وملكية خاصة لا يجور عليها أحد.
هل يملك الكاتب حرية مطلقة في اختيار اسمه على نصوصه المكتوبة؟
الإجابة بالنفي، فالأسماء محكومة بسلطتها، تلك السلطة التي تستمدها من تاريخها وتأثيرها، والأسبقية لها دور في ذلك، فالأسماء التي يستخدمها المبدعون على أغلفة أعمالهم يجب ألا تشف عن شخصية أخرى لها وجود سابق في الإبداع والتاريخ، حتى وإن تشابهت في بطاقات الرقم القومي أو شهادات الميلاد، وعدم الوعي بأهمية ذلك يجعل الكاتب ظلا لا وجود له، ويُفقد القارئ الثقة في قيمة ما يقدمه.
كل هذه الأمور تمنع المؤلف من الاسترسال مع حريته في اختيار الأسماء والعناوين، وهذا ليس ترويجا لحقوق الملكية الفكرية بقدر ما هو إخلاصا لفكرة الكتابة وقيمتها، وكذلك قدرتها على إحداث تغيير جذري في مصائر القراء، هنا تزداد مهمة الناشر أهمية، وتزداد المسئولية الفكرية والثقافية الملقاة على عاتقه في حماية كاتبه من الوقوع في فخ التقليد واختلاط الأسماء، وحتى لا تفسد عملية النشر بشكل غير قابل للإصلاح.