ابن كلس وحكايته مع جامع الأزهر
يعقوب بن كلس شخصية لفتت انتباهى أثناء قرائتى كتاب يهود مصر للدكتور محمد أبوالغار، مماجعلنى أبحث أكثر عن تلك الشخصية التى تمتعت بالدهاء السياسى والمهارة الإدارية والقيادية، وترك بصماته واضحة وجلية على الحياة فى مصر في العصر الفاطمي وما تلاه.
فيعقوب هو ابن لأسرة يهودية مولود ببغداد واسمه أبوالفرج يعقوب بن يوسف بن إبراهيم بن داود بن كلس، ويزعم هو أنه من أولاد هارون بن عمران، وتعلم في بغداد وانتقل مع والده منها الى الشام التى اشتغل فيها بالتجارة، ونجح فيها وحقق مكانة عظيمة وأصبح من التجار الكبار، ولكن دارات عليه عجلة الزمان وبدأت تجارته فى الكساد والتدهور وأثقلته الديون التى عجز عن سدادها.
فانتقل إلى مصر عام 331 هـ بعد أن فقد المال والثروة،واتصل ببعض خواص كافور الإخشيدى، وأعطاه كافور وظيفة صغيرة وسرعان ما كسب ثقته فعينه في عمارة داره ورأى فيه الفطنة والذكاء.
ويقال إنه سمع من بعض خواص كافور قوله لو كان هذا مسلما لصلح أن يكون وزيرا فدرس قواعد الإسلام وشرائعه بعناية حتى لا يجد فرصة من المتربصين به أنه أسلم بهتانا وطمعا فى سلطة وحتى يرد عليهم حجتهم عند مواجهته، وليثبت لهم أنه دخل الإسلام عن اقتناع ومعرفة، قد لزم الصلاة وقراءة القرآن وانتدب شيخا ليعلمه التفسير وعلوم القران ويصلي به ويقرأ عليه، وفي شهر شعبان الكريم انطلق بموكبه إلى جامع عمرو بن العاص ليصلي الجمعة، ولم تكد الصلاة تنتهي حتى انتشر خبر إسلام بن كلس.
وهنا علت منزلته ومكانته عند كافور ونال من الحظوة والتقدير وأثنى عليه فما كان من كافور إلا أن عينه فى ديوانه حتى أصبحت أعماله وحساباته تحت إشرافه، وتوثقت الثقة بينه وبين كافور فضبط له ديوانه في الشام ومصر وأوكل له النظر في جميع الدواوين فكان لا ينفق دينارا ولا درهما إلا بعد توقيعه، وحقد عليه وزير كافور جعفر بن الفرات فأخذ يدس له الدسائس عند كافور، خوفا من بن الفرات على أن يسلب بن كلس مكانته ونفوذه.
وعندما توفي كافور قبض بن فرات على جميع الكتاب وأصحاب الدواوين، ومنهم يعقوب ثم أطلق سراحه بعد أن قدم مالا كثيرا ليفدي به نفسه.
وبعد أن خرج من السجن علم أنه لامكان له بمصر بسبب حقد الوزير بن فرات وقلقه على مكانته في وجود بن كلس، فانطلق من مصر إلى المغرب لتبدأ رحلة جديدة فى حياته.
وفى المغرب كانت نظرة يعقوب صائبة فالبلاد مسرحا للصراع بين أهل الشيعة من الدعاة إلى آل البيت وبين كارهي العباسيين الذين يسعون لتقويض سلطتهم وإنهاء سلطانهم، ووجد فيها فرصة لاستعاده مكانته ونفوذه وسبقته حكايته مع كافور ووزيره جعفر بن الفرات.
دعاه المعز إلى مجلسه وتقرب منه وطغت شخصيته على كل من حول المعز، فقربه المعزلدين الله، وكان من خلصائه وكان المعز له تطلعات في الاستيلاء على مصر من الدولة الإخشيدية ونشر مذهبه فيها، ويعقوب يحفزه على تلك الخطوة أملا فى العودة إلى مصر.
وعندما تحرك جيش جوهر إلى مصر، كان يريد أن يذهب معه لكن المعز أرجئه للذهاب معه هو.
ورحل يعقوب مع المعز إلى القاهرة بعد بناء قائد الفاطميين جوهر الصقلي القاهرة.
وفي مصر أصبح أول وزراء الدولة الفاطمية وأسند إليه المعز شئون الدولة الحربية والمدنية وكذلك مسئولية الإشراف على الشرطة والتي أعفي منصبها من قائده جوهر الصقلي، لانشغاله حتى أصبح بن كلس الرجل الثاني في الدولة الفاطمية.
كذلك قلده مع عسلوج بن الحسن المغربي كل شئون البلاد المالية والخراج والحسبة والأوقاف، فوضعا نظاما للضرائب حتى انتعشت بسببهما أمور الدولة الفاطمية المالية.
وبعد موت المعز لدين الله تولى ابنه العزيز بالله فظل يعقوب على كل مناصبة يخدم العزيز كما خدم والده من قبل ولقبة بالوزير الأجل وهنا استقال خصمه الوزير جعفر بن فرات بعد أن شعر بتمكين يعقوب وقلة نفوذه، ورغم ذلك تمكنت أواصر الود بين أعداء الأمس وصارا قريبين.
واستمر بن كلس على مكانتة يدير شئون الدولة ويراسل الخليفة حتى غضب عليه ذات مرة وحبسه في قصره لمدة ثمانية أشهر، ولم تطلعنا كتب التاريخ عن سبب ذلك الانقلاب من الخليفة على يعقوب بن كلس، ولكن بعد ذلك صفح عنه الخليفة وأعاده إلى متابعة كل سلطاته لشئون الدولة.
ولأنه يعرف خطورة الكلمة وشغف المصريين بآل البيت وحبهم لهم، بدأ فى استخدام مسجد بن طولون ومسجد عمرو بن العاص بالفسطاط فى تمرير أفكار الفاطميين ونشر مذهبهم ولكنه فشل عندما رأى رسوخ المذهب السني في نفوس المصريين رغم محاولاته المستمرة في نشره.
وهنا طلب من الخليفة العزيز بالله أن ينقل المجالس الدينية التي كان يعقدها فى قصره إلى صحن الجامع الأزهر ليصبح دار علم وتثقيف لفقه الشيعة الإسماعيلية، حيث يعقد في قصره مجلسا يحضره القضاة والعلماء والفقهاء والأعيان، واستخدم الكتاب لنسخ القرآن وكتب الفقه والسيرة والأدب والطب وغيرها حتى أصبحت مكتبة الفاطميين عامرة بالكتب التي تخطت مليون وستمائة ألف مجلد.
أصبح الجامع الأزهر مدرسة لتدريس الفقه الشيعي، وأعمدته منبرا لفقهائهم وعلمائهم.
وقد بيع وتلف كل تلك المكتبة ولم ينج منها إلا القليل وذلك بعد سقوط الدولة الفاطمية.
وألّف بن كلس كتاب الرسالة الوزيرية في الفقه الإسماعيلي، أودع فيه جل ما سمعه من الخليفة المعز وابنه العزيز، وأصبح مرجعا لفقائهم في معاملاتهم، حتى أنه في عهد الخليفة الظاهر أمر دعاة المذهب الفاطمي إلى تحفيظ كتاب بن كلس لأهميته وعمقه وقوة تأثيره.
وقد حظي بن كلس على تقدير المؤرخين لجهوده في ميادين العلم وتشجيعه للعلوم والفنون، وإليه يرجع الفضل في تحويل الجامع الأزهر إلى جامعة تدرس فيها العلوم والآداب، بعد أن كان قاصرا على تدريس المذهب الشيعي، وهو من أطلق عليه هذا الاسم الجامع الأزهر وهو من اقترح عمل الأروقة وأن يكون للعلماء أجر شهري من الدولة حتى يضمن ولائهم.
ويعتبر عهد الوزير يعقوب مع الخليفة المعز والعزيز هو أزهى عصور الدولة الفاطمية.
ومن مآثر بن كلس أنه اقام مستشفى فى دارة لعلاج المرضى، كما أقام المطابخ لتقدم الطعام لكل من حوله ومن يريد الطعام، وأقام الموائد فى شهر رمضان الكريم وأنشأ البيوت لإقامة الغرباء كما أنشأ القصور كقصر الذهب وقصر البحر.
وعندما توفي يعقوب أمرالعزيز قاضي القضاة بتغسيله وتكفينه، ويقال إنه كفنه في خمسين ثوبا تأثرا بطقوس دفن قدماء المصريين وقد توفى فى عام 380هـ.
وعندما مات كان عليه دين ستة عشر ألف دينار سددها عنه الخليفة العزيز برغم أنه ظل مسوؤلا عن مالية الدولة الفاطمية لعشرين عاما، مات وزير ماليتهم مديونا وقد حزنوا عليه حزنا عظيما وأمر العزيز بتلاوة القرآن الكريم على قبره لثلاثين يوما، وأغلقت الدواوين عدة أيام ورثاه الشعراء.
ورغم مرور السنوات مازلنا نذكر ليعقوب دوره فى تحويل الجامع الأزهر الشريف إلى جامعة.
وكتبت نهاية الدولة الفاطمية على يد صلاح الدين الأيوبى عندما أشار القاضي الفاضل على صلاح الدين بضرورة الاستيلاء على مصر وتخليصها من الفاطميين لتشكيل جبهة قوية مع دمشق لمحاربة الصليبين.
وكانت خطط القاضى الفاضل تخليص مصر من بقايا المذهب الشيعى وعندما سقطت، عزل قضاة المذهب الشيعى، وأزال كل مظاهر من هذا المذهب واغلق الجامع الأزهر وأنشأ المدارس بدلا منه لتدريس المذاهب الفقهية السنية منها المدرسة الناصرية والصلاحية والقمحية وغيرها واختص الأيوبيين وقتها بالمذهب الشافعي دون غيره من المذاهب، برغم تدريسهم كل المذاهب السنية في مدارسهم.
وهذا ليس في عهد بن كلس، إنما أردنا توضيح كيفية نهاية حقبة ذاك الفكر فى مصر.
ورغم مرور الزمن مازالت بعض مظاهر من احتفالات المصريين التي ورثناها عن الفاطميين تقام حتى الآن، والجامع الأزهر ينير سماء الدنيا بعلمائه وفقهم المستنير.