زهدك في المال غير زهد المال فيك
فرق شاسع بين أن تزهد في المال وأن يزهد فيك، هذه هي نقطة الضوء في ظلمات من يروج أن الإسلام دين الفقر، ويلصقه بالزهد، فلا يمكن أن نقول إن الميت زاهد في الدنيا؛ لأنه فقدها، ولا يصح أن نردد أن الفقير زاهد في المال وهو لا يملكه.
وهناك جملة كاشفة لمصطفى صادق الرافعي في كتابه "وحي القلم"، وصف فيها زهد نساء النبي صلى الله عليه وسلم بأنه "كبرياء الجنة نظرَتْ إلى الأرض، فقالت: لا".
الزهد هو الغنى عن كل شيء تمتلكه عن سَعة.. الغنى عن المال.. الغنى عن النفوذ.. الغنى عن الغنى، فلا يتملك قلبك، ويسخرك لنيل المزيد والمزيد بلا شبع ولا رضا، فيتحول إلى غاية لا وسيلة ونزوة لا فضيلة، وإنما يكون سعيك للمزيد من باب الاستغناء والاستعفاف لك ولإخوتك من أبناء الوطن ولرفعة الوطن نفسه؛ تفضُّلًا لا إجبارًا، وحبًّا لأن يغفر الله لك، ونيلًا للبر، وليس للركون إلى المسكنة.
اقرأ عن الحضارة الإسلامية وكيف وصلت الرفاهية فيها بالإنسان على اختلاف أديانه. اقرأ عن الفاروق عمر الذي فضل إغناء الإنسان على كسوة الكعبة، وما أدراك ما الكعبة! اقرأ إذا كنت لا تعرف. أما بعض المشايخ المُسوِّقين للفقر وملبسيه كساء الزهد فسيحملون وزر أسفارٍ بدَّلوها، مع التفريق بين تحمُّل ظروف دولة، وهو واجب وفرض علينا جميعًا، والتلكُّك لها من المندفعين بحماسة التغييب.
دور المشايخ أن يطالبوا الناس بالصبر والتحمل ليس من باب الوعد بالفردوس الأعلى، وإنما من باب الصبر على الابتلاء، ولديهم في القرآن ما يعالج هذه الحالة، مثل قوله تعالى: "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ". دورهم أن يبشروا بأن الصبر على الضائقة مع السعي الدءوب على الرزق درجة ومنزلة عند الله، لا أن يستخفوا بعقولهم بادعاء أن هذا زهد وعظمة.
كما كان الأولَى بهم أن يوضحوا حكمًا شرعيًّا يحسم معارك سوشيالية يتندر بها الكثيرون، وهو أن للدولة الحق في نزع الملكيات وأخذ نسب من الثروات ما دامت ضرورية لحماية المجتمع من الأزمات والأوبئة وغيرها من الآفات؛ ولتحقيق مستوى لائق لأبناء الأمة، وهو ما أقره مجلس مجمع الفقه الإسلامي في مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية في فبراير 1988م، وجاء فيه: "أن يكون النزع للمصلحة العامة التي تدعو إليها ضرورة عامة أو حاجة عامة تنزل منزلتها، كالمساجد والطرق والجسور، وأن يكون نزع العقار مقابل تعويض فوري عادل يقدره أهل الخبرة بما لا يقل عن ثمن المثل".
واتخذ المجلس قراراته بناء على شواهد كثيرة، منها ما رواه البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى مكان مسجده النبوي من غلامين يتيمين من الأنصار، وعوضهما، واشترى حائطًا من بني النجار لتكملة المسجد. وتكررت أمثلة كثيرة في عهد الخلفاء الراشدين، ولم يعترض أحد من أهل العلم عليها.
أما أن نجد في خضمِّ المتطوعين لتسفيه العقول ذلك المُدَّعي بأنه ولي وشيخ طريقة، والذي فتح صدره على أقصى اتساع بأنه لا يعنيه لو وصل الدولار إلى ألف جنيه (وكأنه اختصر المائة وأربعة ملايين مواطن في ذاته البهية)، وتابع أن المهم هو الرضا وإصلاح النفس، فهذا استفزاز ودروشة في غير موضعها؛ لذا لما تجرأت، وسألته: هل كان هذا فعل الرسول صلى الله عليه والصحابة رضوان الله عليهم؟ ثار وماج؛ لأنه كشيخ طريقة لا يصح أن أناقشه، وإنما عليَّ السمع والطاعة، فقلت في نفسي: ولماذا أسأله هو؟ فلأبحث في أهل الاختصاص.. النبي الكريم وصحابته.
وقابلني دعاء للرسول صلى الله عليه وسلم قرن فيه بين الكفر والفقر بقوله: "اللهمَّ إني أعوذُ بك من الكفرِ والفقرِ". (صحيح، رواه النسائي وابن جرير)، ولم يقل: اللهم اجعلني فقيرًا رضيًّا. كما قابلني حديث آخر: "كَفَى بالمَرْءِ إثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ". (صحيح مسلم).
أما عن الصحابة فكلنا نعلم أنهم رفضوا بعد هجرتهم للمدينة أن يكونوا عالة على غيرهم، وقالوا كلمة الفصل: دلونا على السوق، كما أن الحديث عن ربط بطون بعض الصحابة لم يكن عن فقر، ولكنه نتيجة تسابقهم في فعل الخيرات، والإنفاق مما يحبون؛ لينالوا البر، لدرجة أنهم كانوا ينسون أنفسهم، كما أن هناك درجة عالية جدًّا، سماها الحديث النبوي بـ "الدُّثور"، ووردت في حديث رواه مسلم "أنَّ نَاسًا مِن أَصْحَابِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قالوا للنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: يا رَسولَ اللهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بالأُجُورِ؛ يُصَلُّونَ كما نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كما نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ".
الخلاصة أننا مللنا من الخطاب السطحي الاستخفافي في التعامل مع الأزمات الطبيعية، والتي يعاني منها العالم أجمع.. وليت المتصدرين للمشهد يحاولون ولو مرة أن يتعبوا أنفسهم قليلًا؛ ليجربوا النجاح من باب التغيير.
حاولوا أن تكونوا مشايخ حقيقيين، وهذا ليس معضلة؛ فطبيعي أن كل أمة تمر بفترات صعبة، وبنص التاريخ من خلال خبرته بمصر فهي أقوى من أي أزمة، ولكن ليس من الطبيعي أن يتم التعامل معها بهذه الهشاشة.
انتهت المقالة، ولمن لديه فضول لمعرفة أثرياء الصحابة من بطون كتب التراث فهذه قائمة ببعضهم، ومَن لم يُرِدْ، فليعتبرْها حشوًا:
عثمان بن عفان: تُقدَّر ثروته بـ 30 مليون درهم فضة و150 ألف دينار، وصدقات قُدِّرَت بـ 200 ألف دينار، ووهب بئر معونة لوجه الله، وموَّل جيش العسرة، وله صدقات كثيرة.
طلحة بن عبيد الله: تُقدَّر ثروته بـ 3 ملايين درهم، ومن الذهب 200 ألف دينار، وكان دخله اليومي يزيد على 1000 درهم، وأهدى لرجل سأله أن يعطيه بما بينه وبينه من الرحم، فأعطاه أرضًا ثمنها 300 ألف درهم، وتكفل بدفع ديون جميع من تربطه بهم قرابة مهما بعدت درجتها.
الزبير بن العوام: بلغت أملاكه التي تركها 50 مليونًا و200 ألف درهم، وجاء في صحيح البخاري أن الزبير لما توفي ترك ورثًا، وهو غابة باعها ابنه بمليون و600 ألف، و11 دارًا في المدينة ودارين في البصرة ودارًا في الكوفة ودارًا في مصر، وورثت كل زوجة من زوجاته الأربع مليونًا و200 ألف درهم.
عبد الرحمن بن عوف: تُقدَّر ثروته بـ 3 ملايين و200 ألف دينار، أي: ما يساوي اثنين وثلاثين مليون درهم فضة؛ لأن الدينار الذهبي يساوي عشرة دراهم، وذلك حسبما ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه "الفتح"، وعقب بقوله: "وهذا بالنسبة لتركه الزبير قليل جدًّا، فيُحتَمل أن تكون هذه دنانير وتلك دراهم؛ لأن كثرة مال عبد الرحمن مشهورة جدًّا".
وكان ابن عوف عصاميًّا، بدأ من الصفر، ورفض مشاطرة سعد بن الربيع الخزرجي في نصف ماله.
وروى أحمد في مسنده أن "عبد الرحمن قدمت له مرة سبعمائة راحلة تحمل البُرَّ (القمح) والدقيق". وفي البداية والنهاية أنه "ترك ألف بعير ومائة فرس وثلاثة آلاف شاة ترعى بالبقيع".
ومن صدقاته أرض ثمنها 40 ألف دينار، وأنه منح كل من شهد غزوة بدر 400 دينار، ولما وجدهم 100 رجل فقط، أعطى كل واحد 40 ألف دينار، وأوصى بـ 1000 فرس في سبيل الله، وأعطى أمهات المؤمنين حديقة ثمنها 100 ألف.
سعد بن أبي وقاص: قُدِّرَت ثروته بـ 250 ألف درهم. وكان يريد أن يوصي بالتصدق بثلثي ماله، فرد الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "الثُّلث، والثُّلث كثير. إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ". (متفق عليه).