الفن وحقوق الإنسان
هل هناك من صلة بين الفن وحقوق الإنسان؟ لماذا قد يضع المرء هذان المصطلحان بدلالاتهما المتعددة في سياق واحد؟ هل هناك صلة تجمعهم؟ هل ما يربطهم ملموس ومحسوس؟ من حيث المحتوى الفن وحقوق الإنسان تربطهم عدد من القيم كقيمة الحرية وقيمة حرية التعبير وقيمة التثقيف والتوعية. ولكن لا تكفي هذه المفردات لكي تقدم شرحا وافيا لكيفية تأثر الفن بحقوق الإنسان والعكس، فالعلاقة فيما بينهما أعمق بكثير مما يتصوره البعض بل سأذهب إلى حد القول إن مجتمع بلا فن لا تكتمل إنسانيته ومجتمع يعاني من غياب حقوق الإنسان حتما سيفسد فنه.
وطبعا أتناول الفن في هذا السياق الفن بمفهومه الواسع الذي يشمل الطرب والموسيقى والسينما والتليفزيون والنحت والرسم والرقص، فكل هذه المجالات الفنية هي وسيلة لتعبير المبدع عن أفكار وقناعات معينة سواء كانت عميقة أو ضحلة وبالطبع تحديد ماهية هذه القناعات نسبي ويخضع لتقدير النقاد الفنيين وأنا لست منهم ولا أدعي أني خبيرًا في الفن ولكن هذا لا ينفي أني كباحث متخصص في مجال حقوق الإنسان أرى التأثير الكبير الذي يلعبه الفن عليها، وأعلم جيدا مدى تأثير قيم ومبادئ حقوق الإنسان على الفن.
وسأبدأ من حيث انتهيت. الفن في مجملة مبني على قيمة حرية الإبداع كقيمة مؤصلة له بدونها يفقد معناه وهويته. وحرية الإبداع هي جزء لا يتجزأ من حرية الرأي والتعبير المكفولة بموجب شرعة حقوق الإنسان الدولية وأغلب الدساتير الوطنية في العالم. بدون إطار قانوني ودستوري يضمن حق حرية الرأي والتعبير يستحيل أن تتحقق الظروف المواتية لقدرة صانع المحتوى الفني أن يعبر عن أفكاره وخواطره من خلال فنه بحرية، وبالتالي يتراجع دور الفن كأحد حراس ضمير المجتمع وتتبدد صفته كمصدر للوعي والتثقيف وتتراجع قدرته عن التعبير عن ثقافة المجتمع الذي ينتمي إليه. وبالتالي احترام وحماية وتعزيز حقوق الإنسان على المستوى التشريعي والتنفيذي أمر في غاية الأهمية ليتمكن الفن من ممارسة دوره في مناخ صحي يحترم وينمي قدرته على الإبداع بحرية.
على الجانب الآخر، نجد أن الفن له تأثير كبير وملموس على حقوق الإنسان. وهنا ستطرأ أصوات مستهجنة لهذا الطرح متسائلة ما إن كان للفن قدرة على التأثير على حقوق الإنسان في أي مجتمع، أليست الحكومة هي اللاعب الوحيد الذي يملك قدرة التأثير على حقوق الإنسان سواء سلبا أو إيجابًا؟ والحقيقة أن مثل هذه الأسئلة الافتراضية لا تدل إلا على سذاجة صاحبها وعدم قدرته على التأمل في التأثير القوي والعميق للفن في المجتمع ومدى تأثر حقوق الإنسان بعوامل أخرى من بينها الفن بعيدة كل البعد عن ممارسة الدولة لسلطاتها.
الفن في بلادنا يساهم بشكل كبير في تشكيل وجدان الشعب المصري وثقافته المعاصرة فمن قفشات الأفلام إلى طرب أم كلثوم إلى أداء ما يسمى بالمهرجانات تقدم جميعها من خلال ما تقدمه من محتوى أفكار وقيم تخترق آذان وأعين المواطن لتصل إلى عقله وتساهم في تكوين قناعاته. وهذه القناعات التي يساهم الفن في تكوينها تشكل جزء كبير من الثقافة العامة للمجتمع والثقافة العامة بدورها تحدد الإطار القيمي الذي سيدور في رحاه المجتمع كإطار يميزه من حيث الشكل والهوية. وجدير بالذكر أن بعض القيم الناتجة عن هذه العملية صالحة وإيجابية وبناءة والبعض الآخر فاسد ورجعي وهدام.
لتبسيط الأمور سأضرب مثالا بما هو سلبي ومدى تأثيره على حقوق الإنسان كمنظومة قيم ومبادئ.
في الكثير من الأعمال الفنية المرئية على مدار القرن الماضي ظهرت مشاهد تطبع بل في بعض الأحيان تمجد العنف ضد النساء في صورة تأديب زوج لزوجته بالضرب وضرب الشقيق لشقيقته ليقومها وقتل الحبيب لحبيبته لينتقم منها. وظهرت خلال السنوات الأخير أغاني ما يسمى بالمهرجانات بعضها يدعوا صراحا إلى استخدام العنف لحل ما يواجه الإنسان من تحديات في حياته. ونرى محتوى في الكثير من الأفلام ومقاطع الفيديو كليب تظهر النساء بشكل مخل يرقى إلى مستوى التشيئ الجنسي (ولمن لا يعلم ما هو التشيئ الجنسي، هو أسلوب يُعامل به الشخص باعتباره مجرد أداة للرغبة الجنسية) كل هذه النماذج السيئة التي تقدمها بعض الأعمال السنيمائية والغنائية في ضوء إيجابي أحيانا وأحيانا في ضوء سلبي على استحياء تؤدي إلى زرع مفاهيم وقيم فاسدة في قلب المجتمع.
وبسبب هذه المفاهيم الضالة لاتزال النساء في مصر عرضة للتجاوزات على المستوى المجتمعي رغم جهود الدولة الصادقة لتعزيز حقوق المرأة، فوفقا لأرقام الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء تعرض نحو 25% من النساء المتزوجات لعنف جسدي من قبل الزوج خلال عام 2022. نسبة مرعبة كهذه تؤكد أن ملايين النساء لا يزال ينتهك حقهن في السلامة الجسدية المكفول بموجب العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والدستور والتشريعات الوطنية. والسبب ليس في قصور تشريعي أو تنفيذي، بل يكمن في نقص الوعي وتفشي القيم الفاسدة التي ساعدت في نموها بعض الأعمال الفنية عن قصد أو دون قصد. ومن الممكن أن نضرب أيضا العديد من الأمثلة لمحاكاة شباب لبعض مشاهد الأفلام الهابطة وروايات المهرجانات عبر مشاجرات دموية بالسلاح انتهت بضحايا في عداد القتلى، يعد هذا نمط آخر من السلوك عززته أعمال فنية رديئة أدى لانتهاك صارخ للحق في الحياة الذي يؤسس لكل الحقوق الأخرى.
إن أسهبنا في الأمثلة والنماذج لمدى تأثير الفن على حقوق الإنسان لن ننتهي من سردها ولذلك اكتفي بما قدمت من نماذج تعكس الإشكالية التي نواجها وأود التنبيه إلى أن هذا المقال لا يدعوا إلى تغليظ الرقابة على المحتوى الفني ولا يؤيد منع أي أعمال فنية من العرض لأن هذا في حد ذاته يتعارض من حرية التعبير ولا يفترض هذا المقال غياب أعمال فنية عظيمة لا يسعنا إحصاء عددها من كثرتها تعزز قيم سامية كالمواطنة والحرية والعدل على مر تاريخ الفن المصري منذ بداية القرن العشرين حتى الآن، كما لا ينادي المقال بأن تكون لجميع الأعمال الفنية رسالة أو معنى حيث إن الفنون لها أنماط متعددة منها ما يحمل رسالة معينة ومنها ما يخدم فقط غرض الإثارة والتسلية وهذا مشروع.
بل يدعو هذا المقال القائمين على الفن أن يراعوا حقوق الإنسان في أثناء تقديم المحتوى، ومراعاة حقوق الإنسان جزء لا يتجزأ من مراعاة الضمير والضمير يقتدي أن تتوحد كافة قوى المجتمع لكي تنضم لسواعد بناء جمهورية جديدة تحفظ كرامة الإنسان وتكفل له حقوقه بمفهومها الشامل وتحقُق ذلك يتطلب نشر وتعزيز قيم ومبادئ حقوق الإنسان داخل ثقافة المجتمع، ومن المستحيل أن تتم هذه المهمة دون مشاركة الفن الفعالة في عملية دمج وتوطين هذه المبادئ داخل الثقافة العامة ويكون ذلك من خلال تعزيز دوره في الترويج لقيم كالتسامح والحرية والمساواة والكف عن تصدير أي أفكار أو محاكاة لسلوكيات تشجع أي مظاهر للعنف أو التهميش أو التحقير من شأنها أن تعزز أي مفاهيم أو قيم فاسدة داخل المجتمع.