لو تعاملنا كما يتعامل الله معنا
تخيل لو أننا تعاملنا كما يتعامل الله معنا، ماذا سيكون حالنا؟ تعالوا نستعرض نماذج من تعامل الله معنا؛ لنعرف مكانة الإنسان عنده.
الرحمة هي أساس تعامل الله مع جميع مخلوقاته، والتي قسَّمها بينهم، حتى أن الدابة ترفع حافرها عن صغيرها؛ مخافة أن تصيبه. وهذه الصفة ليست محدودة بحدود، ولا محددة لكائنات دون أخرى؛ لذا قال الله عز وجل: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ".
ولك أن تجعل هذه الآية عالمًا أرحبَ من الكون تعيش فيه "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ".
وأن تقرَّ عينًا بهذا الحديث النبوي: "لمَّا قضى الله الخلقَ كتب كتابًا، فهو عنده فوق عرشه: إنَّ رحمتي سبقَت غضبي". (متفق عليه).
وهذه الصفة تجدها في البسملة وفاتحة الكتاب بصيغتين: الرحمن الرحيم، وبدون حرف عطف بينهما؛ لجعلهما صفة واحدة من وزنين (فعلان وفعيل): الأولى رحمن تدل على الامتلاء المؤقت، بمعنى امتلاء رحمته وقت الحاجة إليها، مثل جوعان وشبعان، وهما صفتان مؤقتتان وصلتا لامتلائهما، والثانية رحيم تدل على استقرار الرحمة واستمرارها.
بعد الرحمة يأتي التقدير من الله عز وجل لكل عمل تعمله، مهما صغر، أو حقر في نظرك. عن أَبي ذرٍّ قَالَ: قَالَ لي رسولُ الله ﷺ: "لا تَحقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوف شَيْئًا، وَلَو أنْ تَلقَى أخَاكَ بوجهٍ طليقٍ". (رواه مسلم).
ويعمم الله تقديره لعباده في كل أعمالهم الحياتية العادية بمكافآت لا تنقطع.. فكلنا ننام ونصحو.. نأكل ونشرب.. نتعلم ونعمل.. نتزوج وننفق على أسرتنا.. والمرأة تنظف وتطبخ.. تحمل وتلد.. تعلم وتربي.. وجميع هذه الأمور وغيرها من مظاهر الحياة تُحتسَب أجرًا وثوابًا. تخيل أنه حتى دخولك للحمام تأخذ عليه أجرًا.
ولا يتوقف تعامل الله معنا على توسيع الامتداد الأفقي للإثابة عن جميع الأعمال، بل وضع نظامًا محاسبيًّا يرتقي رأسيًّا بالعمل الواحد بمضاعفة ثوابه.. فالحد الأدنى للأجر عند الله يبدأ من عشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف، إلى مضاعفات مطلقة، وهي في عمل واحد، وحتى هذا العمل الواحد وسَّع في امتداده الأفقي، فجعل له تفريعات ومضاعفات في تفاصيله.
فكِّر في الوضوء كمثال، واسأل نفسك: لماذا قسم الوضوء إلى 7 فرائض و13 سُنَّة، رغم أنه عمل يستغرق نصف دقيقة؟ تعالَ نحسبها:
النية فرض، باسم الله سنة، غسل اليدين للرسغين (المفصل بين الساعد والكف) سنة، المضمضة سنة، الاستنشاق (إدخال الماء للأنف) سنة، الاستنثار (إخراج الماء من الأنف) سنة، غسل الوجه فرض، تخليل الماء في شعر اللحية للملتحي سنة، غسل اليدين للمرفقين (الكوعين) فرض، مسح الرأس فرض، مسح الرأس كله سنة، مسح الأذنين سنة، غسل القدمين للكعبين فرض، تخليل الماء بين أصابع القدمين سنة، عدم الإسراف في الماء سنة، استخدام السواك سنة. وأضف لكل هذا سنتين مكررتين بأجر مكرر، وهما البدء بالعضو الأيمن، والغسل في كل مرة 3 مرات.
كل هذه الأجور في وضوء يستغرق نصف دقيقة، عرفتَ لماذا قسم الله عز وجل الوضوء إلى فرائض وسنن؟ قِسْ هذا على كل أمور حياتك.
أقول لك الأعجب؟ إذا نويت أن تعمل خيرًا، ولم تعمله، كتبه الله حسنة، فإذا عملته كُتب 10 حسنات. وإن نويت عمل سيئة ولم تعملها كُتبت حسنة، وإذا عملتها كُتبت سيئة واحدة.
وهذا للعبد المطيع. فماذا عن الإنسان الشارد عن الله؟ لقد جعل له معاملة أخرى تليق بذي الجلال والإكرام؛ فيصبر عليه، ويمهله؛ لعله يرجع إليه، فإذا رجع وصحيفة أعماله مُسوَّدة بالسيئات، فإنه بمجرد توبته، يمحو الله هذه السيئات مهما تكن كميتها وأنواعها، ثم تكون المكافأة بأن يتم تحويل جميع أرصدته من السيئات إلى رصيد الحسنات، ويفرح الله بتوبته، وتفرح الملائكة، ويحتفل أهل السموات بالعبد التائب.
وهذه التوبة متاحة للجميع حتى لحظة خروج الروح.
إن الحديث عن تعامل الله مع عباده يطول ويطول، فمن أسماء الله وصفاته الوَدود، وهو كثير ودائم الحب، والكريم والعَفُوُّ والغفَّار والغفور والتوَّاب والمنَّان والحنَّان والصبور، والجبَّار (من جبر وقهر الظالم وجبر خاطر المظلوم)، واللطيف بعباده، والحليم الذي يمهل عباده، والرؤوف بشدة رحمته لعباده.
والآن لماذا نتخلق بصفات الله؟ لأن الله قد يتجاوز عن جميع أخطاء البشر، ويمحوها، ويبدلها جميعها إلى حسنات (إلا)، والويل كل الويل من (إلا)؛ فما بعدها يفسد جميع أعمالك حتى لو كان أعبدَ خلق الله.
(إلا) ظلم وأذى مخلوقات الله من إنسان وحيوان ونبات وجماد، حتى لو كان باللسان.. وضَعْ هذه المرأة التي كانت صوَّامة قوَّامة نصب عينيك؛ حتى تكون عبرة لنا جميعًا، فقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إن فلانة تقوم الليل، وتصوم النهار، وتفعل وتصدَّقُ، وتؤذي جيرانها بلسانها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا خير فيها، هي من أهل النار". قال: وفلانة تصلي المكتوبة، وتصدَّقُ بأثوار (من الأقط) ولا تؤذي أحدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي من أهل الجنة". (صحيح، أخرجه البخاري وأحمد والبزار وابن حبان). والأقط لبن جاف، ليس بشيء يستحق أن يقال عليه صدقة.
لماذا هي في النار؟ لأن عبادة الله لن تزيد في ملكه شيئًا، ولن تفيد إلا الشخص نفسه، وأذى العباد عند الله أشدُّ من معصيته.
ولعظم مكانة المسلم جعل الله له حرمة في كل شيء، ففي الحديث النبوي: "لَزوالُ الدنيا أهونُ على اللهِ مِنْ قتلِ رجلٍ مسلمٍ". (رواه عبد الله بن عمر، وقال الألباني: حديث صحيح).
كم نشتاق اليوم إلى التعامل بصفات الله من العفو والتسامح والكرم والرحمة والود ووووو.. تلك الصفات التي انقرضت. فعندما تكرم أحد عباد الله، فسيقول الله لك: لستَ أكرمَ مني، وعندما ترحمه، يقول لك: لستَ أرحمَ مني. ووقتها سنعيش في مجتمع مثالي، عاشه أسلافنا واقعًا في الدنيا.
أما في الآخرة الباقية فهناك طرق للوصول إلى الجنة بأسرع من البرق والبراق، وهي التخلق بصفات الله، كما أن هناك حفرًا تسقطك في قعر الجحيم حتى لو قضيت ليلك كله قيامًا، ونهارك صيامًا، وقضيت عمرك داخل الكعبة.