بعد مرور عام على الحرب.. قراءة لخطابات السيدين
مع مرور 365 يومًا على انطلاق الرصاصات الأولى للحرب الروسية الأوكرانية يغوص العالم من قدميه حتى رأسه في أحشاء بحر من الرمال المتحركة يسكن قاعه المجهول.. وما أدراك ما المجهول.
365 يوما شهدت فيها أكبر دولة أوروبية بعد روسيا من حيث المساحة حربا ضروسا لم تشهد القارة العجوز لها مثيلا منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها من 78عاما ونيف.
حرب شهدت فرض عقوبات غير مسبوقة على روسيا، وعزلتها إلى حد كبير عن المنظومة الاقتصادية الغربية، حرب تعثر فيها التقدم الروسي وتعرض لانتكاسات فاجأت المراقبين.. حرب خسرت فيها روسيا عشرات الآلاف من جنودها بين قتيل وجريح وأسير. حرب تدفع على إثرها روسيا ضريبة باهظة اتضح أنها على أتم استعداد أن تسددها.. وكيف لا والحرب هذه أصبحت بالنسبة لسيد الكرملين مسألة وجودية.
أما أوكرانيا فهي تعرضت وتتعرض لتدمير كامل، ورغم التعثر الروسي فإن موسكو بكاملها لاتزال راجحة عسكريًا، وخسائر أوكرانيا تجاوزت 100 ألف قتيل من العسكريين و20 ألف قتيل من المدنيين، ذلك ناهيك عن آلاف مؤلفة من الجرحى والأسرى وملايين اللاجئين والمشردين.. وفقدت أوكرانيا خلال عام من الحرب سيطرتها على أغلب سواحلها وثلث أراضيها، ولا تزال القوات الروسية تتقدم من جانب الشرق.
أما الغرب أو مجموعة رامشتين التي تضم الولايات المتحدة وبريطانيا ودول حلف الناتو والاتحاد الأوروبي وأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية؛ فقد ألقت بثقلها خلف أوكرانيا لتنقذها من الانهيار، وضخت إليها مساعدات مالية وعسكرية بقيمة تتجاوز مليارات الدولارات خلال عام واحد فقط. ويهدف الحلف الغربي من خلال عقوباته ودعمه لأوكرانيا إلى أن يدفع روسيا للانسحاب والاستسلام ليتخلص من التهديد الروسي الذي طالما أرق أوروبا والغرب منذ القرن الثامن عشر.
ولكن لم تنجح الحرب ذات الطابع العالمي التي يشنها الغرب بالوكالة على روسيا في تعجيز موسكو إذ إن الصين والهند وأغلب دول إفريقيا والشرق الأوسط وحتى الكثير من دول أمريكا اللاتينية رفضت عزل روسيا والأكثرية وقفت على الحياد، والبعض يؤيد حرب موسكو ضد الغرب. أدى ذلك لفشل جهود عزل روسيا التي وجدت في أسواق آسيا متنفسًا يغنيها على المدى المتوسط والبعيد عن الأسواق الغربية.
وفي أوروبا انقلب السحر على الساحر.. عزل روسيا وفرض عقوبات عليها رغم كونها مورد الطاقة الأول لأوروبا أدى إلى أزمة حقيقية في القارة العجوز، امتدت لقطاعات الطاقة والغذاء، وتسببت في حالة تضخم وغلاء في الأسعار تهدد بكساد جديد يضاهي أعتى أزمة اقتصادية عالمية. ورغم ذلك تضغط الولايات المتحدة على الاتحاد الأوروبي ليستمر في دعم أوكرانيا بكل موارده على حساب مصالحه الاقتصادية الواضحة، مما بدأ يتسبب في اضطرابات اجتماعية وسياسية تجتاح العديد من دول أوروبا، خصوصا بريطانيا وفرنسا وألمانيا التي شهدت محاولة انقلابية اتهمت روسيا بالضلوع فيها.
علي هذا الوضع المتأزم إلى أقصى الحدود، أتت خطابات بوتين وبايدن بمناسبة مرور عام على اندلاع الحرب. سيد البيت الأبيض استبق خطابه بزيارة خاطفة لكييف قد تبدو في ظاهرها بطولية، ولكنها في واقع الأمر تمت بالتنسيق مع الروس الذين اشترطوا أن يدخل بايدن بريًّا لأوكرانيا عبر بولندا، ويقطع رحلة بالقطار مدتها 10 ساعات ليصل كييف، ويتم زيارته خلال إطار زمني محدد، ويرحل دون أن تشن روسيا أي هجمات على العاصمة الأوكرانية، مما فرّغ الزيارة من معناها، وفيما بعد عاد بايدن إلى بولندا ليلقي خطابًا لم يأتِ بجديد سوى نية الولايات المتحدة في مواصلة دعمها لكييف، ورفضها لأي حل دبلوماسي يسمح لروسيا بضم المناطق التي احتلتها. وبالتوازي مع خطاب سيد البيت الأبيض أتى خطاب سيد الكرملين الذي لم يأتِ هو الآخر بجديد، باستثناء إعلانه تعليق عضوية روسيا في اتفاقية الأسلحة الاستراتيجية الهجومية NEW START التي تلزم واشنطن وموسكو بتقليص ترسانتهما العسكرية، وعدم إجراء أي تجارب نووية. الآن روسيا بعد قرار بوتين أعفت نفسها من تلك القيود، ومن الممكن أن تعزز قدراتها النووية. الخطوة لا تختلف عن تهديدات بوتين النووية على مدى شهور الحرب ليردع أي تدخل غربي مباشر في الصراع، وبالرغم من ذلك من الخطأ إغفال مخاطر هذا القرار.
خطابات سيد البيت الأبيض وسيد الكرملين أكدت على أمر واحد فقط، وهو أن الحرب مستمرة دون ظهور أي بوادر نهاية لها تلوح في الأفق المرئي أو الملموس. ينذر ذلك بتصعيد ميداني كبير مع حديث غربي عن هجوم أوكراني مضاد لاستعادة بعض الأراضي بعد تسليم كييف حزمة أسلحة جديدة تضم دبابات أمريكية وألمانية الصنع ومنظومات دفاع جوي ومدفعية حديثة، ومع حديث مراقبين أيضًا عن إمكانية هجوم روسي كاسح مع احتمالية دخول 300 ألف من جنود الاحتياط و1800 دبابة و400 طائرة و2000 قطعة مدفعية إضافية للمعركة.
وفي سياق متصل من المنتظر أن تطرح الصين مبادرة سلام لتسوية الأزمة الأوكرانية قبيل زيارة الرئيس تشي جينج بينج لموسكو في الربيع. فهل تحمل بكين في ثيابها مفتاح حل الأزمة؟ أم ستكون جزءًا منها وسط تكهنات باستعداد الصين لمد روسيا بالسلاح والتكنولوجيا التي تسمح للأخيرة أن تحسم المعركة؟
أسئلة أجوبتها حمالة أوجه، أجوبة قد تحمل الأمل أو الشؤم، أجوبة ستحدد ملامح النظام الدولي الذي سيسود القرن الحادي والعشرين ويعيد تشكيل حياة كل منا كأفراد ننتمي إلى هذا العالم الواسع.