كلمتان وشجرتان
ضرب الأمثال لبيان المراد وتقريبه من الأذهان، أسلوب قرآني اتبعه القرآن الكريم، لبيان كثير من الأمور والأحكام، قول الحق سبحانه وتعالى (وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) الحشر / ٢١، ويقول: (كذلك يضرب اللـه الأمثال)، الرعد/ ١٧ ويقول أيضًا: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) العنكبوت / ٤٣، ولذلك يقول الشيخ / السعدى في تفسيره (..فإن في ضرب الأمثال تقريبا للمعاني المعقولة بالأمثلة المحسوسة).
ويقول الإمام عبد القاهر الجرجاني: واعلم أن مما اتفق العقلاء عليه أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني أو برزت هي باختصار في معرضه ونقلت عن صوره الأصلية إلى صورته، كساها أبهة وكسبها منقبة ورفع من أقدارها وشب من نارها وضاعف من قواها في تحريك النفوس لها ودعا القلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفا.
فأول ذلك وأظهره أن أنس النفوس موقوف على أن تخرجها من خفي إلى جلي، وتأتيها بصريح بعد مكني، وأن تردها في الشيء تعلمها إياه إلى شيء آخر هي بشأنه أعلم، وثقتها به في المعرفة أحكم، نحو أن تنقلها عن العقل إلى الإحساس وعما يعلم بالفكر إلى ما يعلم بالاضطرار والطبع، لأن العلم المستفاد من طرق الحواس والمركوز فيها من جهة الطبع وعلى حد الضرورة، يفضل المستفاد من جهة النظر والفكر في القوة والاستحكام وبلوغ الثقة فيه غاية التمام.. ومعلوم أن العلم الأول أتى النفس أولا من طريق الحواس والطباع ثم من جهة النظر والروية، فهو إذن أمس بها رحما وأقوى لديها ذمما وأقدم لها صحبة وأكد عندها حرمة.
ومن بين هذه الامثلة القرآنية التي ضربها الله للناس، هذا المثل الذي يبين أهمية الكلمة وخطرها إيجابًا وسلبا، ليس على المتكلم فقط، بل على المجتمع بأسره، مما يوجب على الإنسان أن يتفكر في عواقب ما يخرج من لسانه قبل أن يتكلم به، فإن كان خيرًا أمضاه، وإن كان غير ذلك أمسك لسانه عن النطق به، وقديمًا قال أحد الحكماء: (العاقل من يجعل عقله حاكمًا على لسانه، فيتفكر قبل أن ينطق، والأحمق من يجعل لسانه سابقًا على عقله)، والكلمة إذا خرجت من اللسان فهي كالسهم الذي أطلق لا يملك الإنسان رده مرة أخرى.
وقد ضرب الله - عز وجل_ لنا مثلا للكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة، فقال تعالى عن الكلمة الطيبة: (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشحرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون) سورة إبراهيم / 24/25، والمراد بالكلمة الطيبة كما قال المفسرون: هي كلمة التوحيد والإسلام (لا إله إلا الله)، وما يترتب عليها من عمل صالح وقول طيب، وقد شبهها الله بالشجرة الطبية وهى (النخلة) كما قال كثير من المفسرين، ووجه الشبه بين الكلمة الطيبة والنخلة، أن كلا منهما متعدد المنافع فصاحب الكلمة الطيبة يحبه الله، ويحبه الناس ويتقربون منه، وينتفعون بكلامه، وكذلك النخلة فهي: ثابتة الجذور، باسقة الساق متفرعة الأغصان ويقبل الناس على ثمرها وظلها، وقد صح في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم- شبهها بالمؤمن.
وبعد أن ذكر الله - تعالى - الكلمة الطيبة، وما ضربه مثلا لها، ذكر المقابل لها، وبضدها تتميز الأشياء، فقال تعالى عن (الكلمة الخبيثة): ( ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار)، والكلمة الخبيثة هي كلمة الشرك أو الكفر والعياذ بالله، وما يستتبعها من العمل السيء والكلمة الخبيثة المرذولة، وقد شبهها الله بالشجرة الخبيثة وهي شجرة الحنظل "وهى شجرة في غاية المرارة، ووجه الشبه بينهما الأثر السيء الذى تحدثه الكلمة الخبيثة، وما تسببه من أذى لصاحبها في الدنيا أو ما تجره عليه من عذاب في الآخرة، فهي تقطع الأرحام، وتضيع الحقوق، وتنفر الناس، والشجرة الخبيثة كذلك تسبب نفور الناس لمرارة طعها.
ثم يعقب الله -عز وجل- على هذا المثل بقوله (يثبت الله الذين، ءامنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة...) لأن الإنسان في حياته يتقلب لسانه بين الحالين، وعندما يأتي الأجل لا يدري على أي حال سيموت ويلقى الله، وإنما الاعمال بالخواتيم، فهل يموت ولسانه ينطق بالكلمة الطيبة أم بالكلمة الخبيثة، فاثبت على مبدأ الحق وعش عليه، وأمسك لسانك عما يغضب الله -تعالى -، وداوم على الذكر والتسبيح فهو منحة إلهية، وقد جرت حكمة الله أن من شب على شيء شاب عليه، ومات عليه.
فاللهم اجعل اخر كلامنا لا إله إلا الله.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
* محمد عبد الغني - إمام وخطيب بوزارة الأوقاف