يوم الفرقان
ومع مجيء شهر رمضان بمنحه الإلهية ونفحاته الروحية، تتجدد ذكريات أيام الانتصارات العظيمة التي وقعت في هذا الشهر المبارك، لتكون هذه الانتصارات مظهرًا آخر من مظاهر التميز والعظمة، يدخل البهجة والسعادة على قلوبنا وأرواحنا عندما نجدد ذكراها، فنجدد الشكر لله عليها فهي نعم جليلة، وأيام عظيمة، أعز الله فيها الإسلام ورفع رايته، وأذل الشرك والطغيان ونكس رايته، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا وستظل كذلك.
- ويأتي على رأس هذه الأيام العظيمة، ذلك اليوم المشهود الذى سماه القران (يوم الفرقان)، يوم التقى الجمعان، وتقابلت الفئتان، فئة تقاتل في سبيل الله على رأسها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفئة تقاتل في سبيل الشيطان، على رأسها أبو جهل -عليه لعنة الله-، وكان ذلك في مثل هذا اليوم السابع عشر من رمضان من السنة الثانية من الهجرة، والمشهور في كتب السيرة بـ«غزوة بدر الكبرى» يقول الطاهر بن عاشور: إنه سمى "يوم الفرقان" لأنه كان فارقًا بين الحق والباطل، لأنه أول يوم ظهر فيه نصر المسلمين الضعفاء على المشركين الأقوياء، وهو نصر المحقين الأذلة على المبطلين الأعزة..).
وغزوة بدر الكبرى التي حدثت في مثل يومنا هذا من رمضان سنة 2 هـ، أشهر الغزوات على الإطلاق، ولذلك نقول: إن ملابساتها وأحداثها ونتائجها أشهر من أن يعاد ذكرها مرة أخرى. ولكن هناك درس من أعظم الدروس التي نتعلمها من هذه الغزوة المباركة، والتي كانت أول مواجهة حقيقية وكبيرة بين الإسلام والكفر، وهذا الدرس أطلق عليه: (رجال صنعهم محمد قبل الأوان) جنود شاركوا وقاتلوا بل واستشهد بعضهم في هذه الغزوة، وهم بمعيار السن والخبرة أطفال ما كان لهم أن يشاركوا في قتال فيه صناديد (قريش)، ولكن سيدنا محمدا -صلى الله عليه وسلم- بث فيهم من روحه وايمانه وأشربت قلوبهم عقيدته ويقينه بنصر الله - تعالى- فطمعوا في إحدى الحسنيين، إما النصر وإما الشهادة والفوز بالجنة وهى ما يطمحون إليه، فصنع منهم سيدنا محمد "رحالًا قبل سن الرجال"، دافعوا عن دينهم، وبذلوا أرواحهم طائعين فداء لعقيدتهم وأوطانهم. راسخين في ميدان المعركة كالجبال الراسيات بل أشد، وإذا سألت ما الذي جعلهم كذلك فقل: رباهم محمد صلى الله علیه وسلم.
- أنظر إلى سيدنا عمير بن أبي وقاص -رضى الله عنه- شهيد بدر، يقول سیدنا سعد ابن أبي وقاص أخوه كما أورد ابن الجوزي في كتابه (صفة الصفوة): رأيت أخي عميرًا قبل أن يعرضنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للخروج إلى (بدر) يتواری، فقلت: مالك يا أخي؟ قال: إني أخاف أن يرانى رسول الله فيستصغرني فيردنی وأنا أحب الخروج لعل الله أن يرزقني الشهادة. قال: فعرض على رسول الله فاستصغره فقال: ارجع، فبكى عمير، فأجازه رسول الله، قال سعد: فكنت أعقد له حمالة سيفه من صغره فقتل يوم بدر، وهو ابن ست عشرة سنة قتله عمرو بن عبد ود، نعم لم تخطئ قراءة عمر سيدنا عمير، ست عشرة سنة، وليس هذا من أساطير الأولين، إنهم رجال صنعهم ورباهم محمد قبل سن الرجال، وما العمر إلا مجرد رقم، فلا تعجبوا.
وانظر أيضا إلى معاذ ومعوذ ابني عفراء وهما شابان صغيرا السن، رباهما محمد صلى الله عليه وسلم توعدا (أبا جهل) بالقتل وظلا يترصدانه في المعركة حتى قتلاه، لأنهما سمعا أنه يعادى ويسب سيدنا رسول اللہ صلی اللہ علیہ وسلم، فمن لنا بمثل هؤلاء.
فصلوات الله وسلامه على المربي الأعظم والرسول الأكرم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.