اذهبوا فأنتم الطلقاء
(إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) القصص، خطاب إلهي لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشره ويعده أنه سيرجع يوما إلى مكة التي كذبه أهلها وآذوه، فخرج منها مهاجرا إلى حيث قيض الله له أنصارا آووه وآمنوا به من أهل المدينة المنورة.
وبعد سنوات من الهجرة من مكة كان القلب فيها دائما مشتاقًا إليها، ويتحقق موعود الله لرسول الله، ليعود النبي الكريم لوطنه مكة، مؤمنا أهلها، ومحطما الأصنام رموز الشرك والطغيان، 360 صنمًا حول الكعبة وفى البيت الحرام حطمها النبى وهو يتلو قول الله تعالى: (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) الإسراء.
وكان هذا الفتح المبين (فتح مكة) من الأحداث العظيمة التي وقعت في شهر رمضان في العشرين منه في السنة الثامنة من الهجرة، ويدخل رسول الله مكة مطأطئًا رأسه تواضعا لله عز وجل، وقد اجتمع أهل مكة في هذا الموقف المهيب العظيم، ووقف النبي ومعه أصحابه ينظرون إليهم، وفيهم من لا تزال سياط التعذيب تلهب ظہره، ولاتزال آثارها بادية على جسده، لا يزال على قيد الحياة (بلال بن رباح)، يجثم على صدره ذلك الحجر الثقيل الذي كان سيده (أمية بن خلف) يضعه على صدره، وهو عار الجسد في حر مكة حتى يكفر بمحمد ورب محمد، فيرد بلال عليه بكلمته التي لا تزال تدوي في سمع الزمان (أحد أحد)، لا يزال على قيد الحياة (عمار بن ياسر)، الذي عُذبَ أَشد العذاب هو وأبوه (ياسر بن عامر)، وأمه (سمية بنت الخياط) رضي الله عنهم أجمعين، عذبهم زبانية قريش، وعلى رأسهم (أبو جهل)، حتى استشهد سيدنا (عامر) والسيدة (سمية) التي طعنها (أبو جهل) بحربة فماتت، فكانت أول شهيدة فى الإسلام.
لا يزال على قيد الحياة (صهيب الرومي)، الذى ترك ماله كله ليفر بدينه مهاجرا مع رسول الله، حيث أبى الكفار تركه إلا بعد أن دلهم على ماله كله، صفقة خسر فيها الدنيا، ولكنه ربح الآخرة، وما عند الله خير وأبقى، وبشره رسول الله بذلك حين لقيه فقال له: (ربح البيع أبا يحيى) وغيرهم كثير من الصحابة الذين أوذوا في سبيل الله وأخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أنهم قالوا (ربنا الله).
واجتمع المظلومون المعذبون مع ظالميهم، وجاء وقت الحساب، وتلاقت العيون، ولينصب ميزان العدل، ليأخذ كل ظالم عقابه وجزاءه، ستقطع رقاب، وتسيل دماء، وتجلد ظهور، وتستلب أموال، فالعين بالعين، والسن بالسن، أليس هذا هو ميزان العدل؟ هكذا دارت الأمور فى عقول وخواطر أهل مكة، ولكن كان هناك مع ميزان العدل فيض من السماحة والعفو والمغفرة، كان هناك الرحمة المهداة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، جال ببصره في أهل مكة يترقبون حكمه فيهم، ولكنه قال قولته المشهورة: ما ترون أنى فاعل بكم؟ فسكت القوم وأطرقوا برؤوسهم، فقيض الله فيهم من قال: (خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم) فقال: فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر لله لكم وهو أرحم الراحمين) اذهبوا فأنتم الطلقاء.
وقام بلال صادحا بأذانه فوق الكعبة، يعلنها في سمع الدنيا (الله اكبر الله أكبر)، وصدق الله رسوله الرؤيا بالحق، وحقق له وعده إن وعده كان مفعولا.