لا تزكوا أنفسكم
صمت 30 يوما ما أفطرت، وقمت ثلاثين ليلة ما تخلفت، واقع لا يُنكر، ربما يتبجح الكثيرون به بعد انقضاء رمضان، مستكثرين عبادتهم على الله، ومعجبين بها، متناسين حقيقة هامة وعظيمة هي أن الكمال لله وحده، والإنسان في عبادته مهما فعل مقصر لا يتمها على الوجه الأكمل الذى يخول له أن يدعى هذا الادعاء، أنه صام 30 يوما وقام 30 ليلة، والنموذج البشري الوحيد الذي أكمل العبادة، وقام بها خير قيام هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو خير وأفضل من صلى وصام وحج بيت الله الحرام، ولذلك نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك.
ففي الحديث الذي يرويه سيدنا أبو بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه عن رسول الله قال: (لا يقولن أحدكم صمت رمضان كله، ولا قمت رمضان كله)، ثم يفسر الراوي مراد رسول الله (فالله أعلم، أكره التزكية، أم لا بد من غفلة أو رقدة)، ونظرة إلى واقعنا في صيامنا وقيامنا يجعلنا ندرك موقنين أن الصائم القائم حين يقطع بأنه صام رمضان كله وقامه كله، فهو واحد من اثنين:
الأول: إنسان معجب بعمله مغتر بطاعته، يزكي نفسه بعبادته على الله تعالى، وقد نهى الله عز وجل عن تزكية النفس فقال: “فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى”، وكما قلنا من قبل: إن مدار قبول الأعمال والطاعات على إخلاص النية، والنية محلها القلب، والقلب لا يطلع على ما فيه إلا الله، فمن أين لك أن تقطع بأن صيامك كله مقبول، وأن قيامك كله مقبول، وقد ذم الله تعالى هؤلاء الذين زكوا أنفسهم حين قالوا (نحن أبناء الله وأحباؤه) وزكوا أنفسهم فقالوا (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى).
وقال موضحًا عظيم خطأهم في تزكية أنفسهم (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكى من يشاء ولا يظلمون فتيلا)، قال الإمام القرطبي رحمه الله: (هذه الآية وقوله تعالى (فلا تزكوا أنفسكم) تقتضى العض من المزكي لنفسه بلسانه، والإعلام أن الزاكي والمزكى من حسنت أفعاله، وزكاه الله تعالى لا عبرة بتزكية الإنسان نفسه) فهذا أصل الداء فانتبه؟ لذلك يقول شيخ العارفين سيدى أحمد بن عطاء الله: (أصل كل معصية وغفلة وشهوة الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة وعفة عدم الرضا منك عنها، ولأن تصحب جاهلا لا يرضى عن نفسه خير لك من أن تصحب عالمًا يرضى عن نفسه).
الأمر الثاني الذي لأجله نهى رسول الله الإنسان أن يقول: لا صمت رمضان كله أو قمت رمضان كله، أن هناك حقيقة لابد من الإقرار بها وعدم تناسيها، وهى أنه لابد أن تقع غفلة وتقصير في عبادة أي إنسان وبدرجات متفاوتة -حاشا سيدنا رسول الله صلى اله عليه وسلم وهذا التقصير- لا ينقص من الأجر في الصيام فقط بل في سائر العبادات حتى قال رسول الله عن الصلاة مثلًا " إنَّ الرَّجلَ لينصرِفُ، وما كُتِبَ لَه إلَّا عُشرُ صلاتِهِ تُسعُها ثُمنُها سُبعُها سُدسُها خُمسُها رُبعُها ثُلثُها، نِصفُها"
فالعبرة بخشوع القلب وحضوره لا مجرد القيام والركوع والسجود حتى قال سيدنا عمر: والله أن الرجل ليشيب عوارضه في الإسلام لا يأتي الله بصلاة تامة فقام إليه رجل يسأله فأشار إليه بيده أن اجلس ثم قال عمر اللهم لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها ولا رغبتها ولا رهبتها.
وعلاج هذا التقصير، وهذه الغفلة من المعانى التي لأجلها شرعت زكاة الفطر، فإنها شرعت طهرة للصائم من اللغو والرفث وجبرا لما لا بد أن يقع من الصائم، فاللهم اجبر كسرنا وتجاوز عن تقصيرنا يارب العالمين.