المسامح كريم
مرت علينا مواسم خير تفيض فيها الرحمات الإلهية من عند الله تعالى، ولكننا حرمنا أنفسنا من نفحاتها ورحماتها، ولم نعرض أنفسنا لها، وما ليلة النصف من شعبان منا ببعيد، تلك الليلة العظيمة المباركة التي رددنا فيها وتذاكرنا قبل حلولها حديث سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي يرويه سيدنا أبو موسى -رضي الله عنه- وفيه يقول النبي الكريم (إن الله ليطلع ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن)، وحديث ابن عمرو -رضى الله عنها- عن رسول الله أنه قال: (إن الله ليطلع إلى خلقه ليلة النصف من شعبان، فيغفر لعباده إلا لاثنين: لمشاحن، أو قاتل نفس).
ويمر علينا يوما الاثنين والخميس، ونتذاكر حديث سيدنا أبى هريرة -رضى الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذى يقول فيه تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين، ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا، إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا)، وفى رواية "إلا المهتجرين" فهل عرفنا من أين نؤتى؟ هل عرفنا لماذا نحرم نفحات الله ورحماته، وتحجب عنا خيراته وبركاته؟ هل عرفنا لماذا لا يستحق هذا الفيض من رحمة الله وغفرانه في هذه الأيام المباركة؟، قل: هو من عند أنفسكم،
إنها الكراهية والبغضاء والشحناء التي ملأت القلوب، وقطعت الصلات والأرحام، وعكرت صفو المودات، وقلوب كهذه لا يستحق أصحابها منح الله وعطاياه ورحماته.
جلس أحد علماء السلف بين تلاميذه يوما، فقال لهم: (من أوتى صدرا سليما نقيا لإخوانه، فقد عجل له شيء من نعيم الجنة)، فقيل له: وكيف ذلك يا إمامنا؟ قال: لأن الله وصف أهل الجنة فقال: ( إن المتقين في جنات وعيون، ادخلوها بسلام ءامنين، ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلین)، فأهل الجنة نزع الله من قلوبهم الغل والكراهية والأهل محبة وتسامحا ومن تمام مظاهر المحبة التي غمرت القلوب بعد أن نزع الله غلها وحقدها، أنهم يجلسون متقابلين أي ينظرون إلى وجوه بعضهم نظر المحبة والرضا والتسامح، على عكس ما كانوا عليه حال التباغض والتهاجر فى الدنيا، فإنهم كانوا يلتقون فيعرضون عن بعضهم، ويشيح كل واحد منهم بوجهه عن الآخر.
وقد ورد هذا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديثه الشريف الذي يرويه سيدنا انس -رضى الله عنه- قال: قال رسول الله: ( لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا، لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)، وفى رواية (يلتقيان فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام، والذي يسبق بالسلام يسبق إلى الجنة) وها هي أيام العشر من رمضان ولياليها، نتنسم فيها روائح سيدة الليالي ليلة القدر -نسأل الله أن يبلغنا إياها- لنرفع فيها جميعًا أكف الضراعة إلى الله تعالى، ندعوه بما علمنا رسول الله: (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا)، ولكن هل قدمنا نحن العفو أولًا فيما بينا؟ هل تسامح كل واحد منا مع من ظلمه، حتى يقول الله لنا حينما ندعوه تسامحتم فيما بينكم، وعفوتم عن بعضكم البعض، فلن تكونوا أكرم مني وأولى بالسماحة والغفران، قد عفوت عنكم وسامحتكم)، ولكن يأبى البعض إلا أن يعلن بقساوة قلبه، وفساد طويته، وبقائه على حاله، رغم أنه أدرك رمضان، والذي ينبغي أن يستقبله بقلب نقي تقي محب متسامح، فتجده يستصحب المشاكل والخلافات التي بينه وبين أخيه أو جاره أو صديقه في رمضان وتأتي أيام رمضان ولياليه ومنها ليلة القدر ليلة الطمع في العفو والمغفرة والسماحة من الله تعالى، لنحرم أنفسنا من ذلك، واستمع إلى حديث سيدنا رسول الله الذي جاء فيه: ( خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبر الناس بليلة القدر، فتلاحى -أي اختلف وتنازع- رجلان من المسلمين، فقال عليه الصلاة والسلام خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان وإنها رفعت.
فلنبدأ - لا أقول من هذا اليوم أو هذه الليلة، بل من هذه اللحظة ولنبادر إلى مد يد التسامح والعفو، ولا تظنن أنك إن أخذت زمام المبادرة بالصفح والسلام فإن هذا سينقص من قدرك، أو يقلل من قيمتك، فهذا ما تسوله لك نفسك والشيطان، فما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، فأخز الشيطان وابدأ بالسلام، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمنا فوق ثلاث، فإن مرت ثلاث فليلقه فليسلم عليه، فإن ردّ عليه السلام، فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم، وخرج المسلم من الهجرة"، وإذا كان البادئ بالشر أظلم، فإن البادئ بالخير والسماح أكرم فـ ( المسامح كريم)، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم أصلح ذات بينا، وألف بين قلوبنا، واسلل سخيمة صدورنا، واجمع على الحق كلمتنا، اللهم آمين.