اقتصاديات الضرورة: قراءة في تقريري موديز وبلومبرج
طالعنا هذا الأسبوع بيانات اقتصادية هامة في مقالة لوكالة بلومبرج، وكذلك تقرير من وكالة موديز للتصنيف الائتماني، وقد تضمنا تحليلات عن الوضع الاقتصادي المصري، خاصة فيما يتعلق بتحليل الديون الآجلة، وارتفاع الهامش بين السندات المصرية وسندات الخزانة الأمريكية وتكلفة التأمين ضد التخلف عن السداد.
وربما أبرز ما أشار إليه تقرير موديز، هو أن الوضع الاقتصادي سيزداد تعقيدًا نهاية العام لارتباطه بعاملين مهمين، أولهما الاعتماد على تجديد الودائع السيادية طرف البنك المركزي، والثاني هو حلول آجال ديون غير قابلة للجدولة خلال 2024.
بينما جاء سرد "بلومبرج" أكثر وضوحًا على المدى القصير، حيث أوضح أن الهامش بين السندات المصرية وسندات الخزانة الأمريكية قد وصل إلى مرحلة خطرة، حيث تجاوز الـ1000 نقطة أساس، وبينما هو أمر شهدناه في أغسطس من العام الماضي، إلا أن التطور الأخطر هو ارتفاع تكلفة التأمين ضد تخلف مصر عن السداد والتي ارتفعت 30% دفعة واحدة لتبلغ 2200 نقطة أساس.
وربما كان هذا الأمر هو الأكثر أهمية، كما يؤكد المحلل جوردون باورز بأن: الانعكاس في منحنى الائتمان يدل بالتأكيد على تسعير السوق في إطار احتمال أكبر لمخاطر التخلف عن السداد في المدى القريب.
وهذا ما يدفعنا نحو حلول عاجلة جدا تصطدم بواقع عالمي غير مواتي، حيث إن الإشكالية الأكبر في وضعنا، هي الاعتماد على سد الفجوة التمويلية عن طريق الاتجاه لأسواق رأس المال، في ظل ارتفاع الفائدة بشكل كبير، والتي تعتمد على قرارات الفيدرالي الأمريكي، ومن ثم فإن قدراتنا الحالية تتأثر باستمرار الفيدرالي في رفع الفائدة.
وكل هذا يرجع لأننا فرضنا على أنفسنا الاعتمادية المباشرة على الأسواق العالمية، ولذلك فإن أي حلول تمويلية بالطبع سوف تكون مرتبطة بوضع السوق العالمي، الذي يواجه أزمة هو الآخر، والتوقعات بشأنه غير متفائلة على الأقل حتى نهاية 2023.
وعليه فإن الاعتماد على بيع الأصول والتخارج الحكومي من الشركات هو الطريق الوحيد لتوليد تمويل من خارج الدائرة المغلقة، ولكن الغريب هو أننا وعلى الرغم من بطء خطوتنا في إقرار هذه الحلول، وعلى الرغم من ضغط المؤسسات الدولية، ومن ضمنها صندوق النقد، قد تحولنا من مرحلة عدم الرغبة أو التباطؤ في تنفيذ هذه الحلول إلى عدم القدرة على تنفيذها من أصله.
وهذا ببساطة يرجع إلى ضغط الاقتصاد الكلي على تقييم الأصول، وعلى رغبة المشتري في التفاوض، وما يزيد الطين بلة، هو مزاج المستثمر في هذه الآونة، وبالأخص المستثمر الخليجي، بالإضافة إلى استمرار نهج الفيدرالي الأمريكي كما هو عليه منذ بداية جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية.
وعليه فإن أزمتنا قد تجد طريقها نحو الحل إذا حدث تغيير كبير في "مزاج" المستثمر، وهذا مستبعد على المدى القصير، أو من خلال تراجع الفيدرالي في خطواته بعض الشيء وهذا أيضا لن يحدث قبل نهاية السنة.
وفي الحقيقة، فإن ما فجر الأزمة بشكلها الحالي، واقعة خروج التفقدات الدولارية قبل تعويم مارس 2022 بالصورة الفجة التي تمت والتي يجب أن يُسأل فيها وعنها الإدارة السابقة للبنك المركزي، بالإضافة إلى استمرار نمط الإنفاق الحكومي بنفس الصورة عقب هذا الحدث رغم أن الغطاء الدولاري تقريبا تلاشى وقتها.
وهو الأمر الذي ذكرته ضمن سلسلة مقالات كتبتها في بداية العام الحالي، بعنوان قراءة في الوضع الاقتصادي وشملت 4 حلقات، استعرضت خلالها تفاصيل الأزمة التي نواجهها والأسباب التي جرتنا نحوها والحلول التمويلية المطلوبة والحلول التشغيلية طويلة المدى.
وما أطرحه هنا، ليس أمرًا بعيدًا عن رصد وتحليل المتخصصين، فالكل يعلم المشكلة، ولكن الإشكالية تكمن في تحديد الحلول المناسبة، خاصة وأن الخيارات المتاحة اصبحت قليلة للغاية، والمصارحة بها فقط حتى دون تنفيذ سوف تحدث أزمة.
والأزمة التي نمر بها الآن هي الأعنف منذ 40 سنة تقريبا، وإن كان جزء من مسبباتها هو صناعة محلية بامتياز، لن يخرجنا منها إلا الحلول التمويلية فقط، أما الحديث عن صناعة أو زراعة أو سياحة أو غيره، فهذه حلول تشغيلية لن تحقق صدى خلال المدى القريب وإن كانت هي الملجأ لاحقا لنقوي اقتصادنا ونحوله إلى اقتصاد تشغيلي في المقام الأول.
بالطبع الحلول التشغيلية طويلة المدى ضرورية وأساسية، ولا غنى عنها، ولكن بشكل مبسط، فالمريض الذي يعاني أزمة قلبية لا يمكن وصف علاجه الحالي بأن يأكل بشكل جيد وصحي وأن يخفض وزنه ويمارس رياضة، وإنما المطلوب انعاشه بشكل عاجل في البداية، ثم بعد ذلك يحسن صحته، واقتصاديا فإن ذلك يأتي بضخ أموالا عاجلة أما حلول الزراعة والصناعة والإنتاج فمجالها ليس الآن إطلاقا.
ناهيك بالطبع عن ضرورة اللجوء إلى الحلول المطلوبة بشكل عاجل، والتي من بينها بشكل لا مناص منه في تصوري التفكير الجاد في توريق العوائد المستقبلية لقناة السويس، وهو الأمر الذي استعرضته بشكل مفصل أيضا في سلسلة مقالات قراءة في الوضع الاقتصادي.
ولكن بشكل لا تبسيط بعده، فإن توريق العوائد المستقبلية لقناة السويس يعني إمكانية أخذ سلفة بضمان عوائد القناة في عدة سنوات.. مثلا القناة تدر سنويا 7 مليارات دولار أي 35 مليارًا في 5 سنوات، وبناء عليه نستطيع أن نحصل على مقدم حالا 22 مليار دولار عن طريق ما بعرف بعملية توريق مالية، وهي للتبسيط الشديد اشبه بـ "سلفة بضمان الراتب".
خياراتنا في سبيل الحل أصبحت محدودة ومعتمدة في شقها الأكبر على توفير حلول تمويلية عاجلة بأي وسيلة ممكنة، حتى يمر هذا الإعصار بسلام وهذا هو الجزء الأصعب، أما أن نهيئ وضعنا لكي لا نقع في نفس الموقف فرغم أنه يأخذ وقتا إلا أن تطبيقه ليس صعبا على الإطلاق طالما توافرت الإرادة لذلك وإلا فإن هذه الظاهرة ستتولد من جديد بشكل أكثر عنفا وضراوة.