اقتصاديات الضرورة 2: المحطة الأخيرة
تحدثت سابقا عن الإصلاحات الهيكلية المطلوبة لضبط المنظومة الاقتصادية بتحديد أسباب الأزمة وطرق الحل قصيرة وطويلة المدى، كما تبعت ذلك بتوضيح الضرورات التمويلية الملحة للظرف الراهن والمتمثلة تحديدا في توليد تدفقات دولارية بشكل عاجل، إما عن طريق آليات حكومية كالطروحات والودائع وتوريق العوائد المستقبلية، أو حتى في حال تحسن ظروف التمويل عالميًا.
لقراءة المقال الأول اقتصاديات الضرورة اضغط هنا
ماذا إن لم تنجح كل هذه الخيارات المحدودة أصلا، وبخاصة أن تحقيق نتائج ملموسة لأي منها لا يتوقف فقط على السياسات الحكومية فهناك عوامل دولية وإقليمية مؤثرة في ذلك ليست في يد الحكومة أو البنك المركزي على الإطلاق؟.. هذا ما أنا بصدد طرحه في المقال الحالي، إن أخذنا في الاعتبار عدم تحقيق برنامج الطروحات للمأمول منه، وكذلك استمرار الظرف العالمي الضاغط وبالأخص عامل الزمن.
وبشكل مباشر ومنجز، ففي حال لم تنجح الدولة في الحصول على تدفقات دولارية كبيرة "5-6 مليار دولار" من أي جهة أو بدائل تمويلية أخرى خلال 6-9 أشهر، فقد لا تكون هناك بدائل متاحة لإصلاح الوضع أو لضمان الاستمرار بشكل قابل للإصلاح لاحقا، سوى باللجوء إلى عملية "إعادة هيكلة" الديون.
وإعادة هيكلة الديون إما أن تكون استباقية كمحاولة شبه أخيرة للإنقاذ، أو لاحقة إن لم توفق كل محاولات الإنقاذ، ووصلنا إلى مرحلة التخلف عن السداد، وفي حين أن الخيار الأخير مكلف بالطبع للجميع وغير مُتصور الحقيقة في حالتنا على الأقل حتى 2024، فإن ما يعرف بإعادة الهيكلة الوقائية "الهيكلة الاستباقية" هو الاختيار الأمثل إذا استشعرت أي دولة عدم قدرتها على خدمة الديون المستحقة.
وتتم هذه العملية من خلال إعادة التفاوض على شروط الديون بحيث تكون المدفوعات أكثر سهولة، وتشمل تمديد فترة السداد أو خفض معدل الفائدة أو تقليل الرصيد الإجمالي المستحق، ومن المرجح أن تنجح عملية إعادة الهيكلة الاستباقية في تقليل 20٪ من حمل المديونية في المتوسط، أما الهيكلة اللاحقة فقد تصل إلى 50٪ في المتوسط.
ورغم اعتبار البعض أن الهيكلة هي تسمية "لطيفة" للتخلف عن السداد، إلا أن ما يحسّن الموقف هو أن تكون الهيكلة استباقية وليست لاحقة، خصوصا أن الدراسات تشير إلى أن البلدان التي تقوم بإعادة هيكلة استباقية عند ارتفاع مخاطر التخلف عن السداد، تنجح غالبًا في منع التخلف عن السداد في السنوات اللاحقة.
أعلم أن خيار إعادة الهيكلة يرتب بالشكل المباشر عدم القدرة على الحصول على قروض مرة أخرى، ولكن هذا الأمر حاصل بالفعل الآن قبل أي هيكلة أو حتى جدولة، وعليه فإن هذا التخوف غير جدير بالتقدير حاليا.
وبما أن الأرقام توضح أن معظم المدفوعات المطلوبة من الدولة المصرية في أواخر 2023 وبداية 2024، ذاهبة في سبيل سداد ما يعرف بالديون متعددة الأطراف "multi lateral" بما فيها التزامات صندوق النقد، فإن هذا الأمر في تقديري يولد فرصة سانحة لإتمام صفقة إعادة الهيكلة على أساس دفع الفوائد وترحيل دفع الأصل أو شيء أقرب لذلك حسب المفاوضات.
وإذا كان في الوقائع التاريخية عبرة، فإن الدراسات تشير إلى أنه من بين 179 حالة تعثر عن السداد في الديون السيادية، (في الفترة من 1970 -2010) فإن 12٪ فقط من هذه الحالات هي التي فضلت أن تقوم بإعادة هيكلة استباقية كاملة وحققت نتائج مرجوة وحمت نفسها من التبعات الكارثية إن لم تبادر للإصلاح فيما يتعلق بفترة الحجب خارج الاسواق، وزمن التعافي، بينما استطاعت 26٪ منها أن تقوم بهيكلة شبه استباقية (بعد تعثر طفيف)، في حين وقعت 62٪ من الحالات في مأزق الهيكلة اللاحقة، بعد أن تعذر عليها التصرف السريع.
بالطبع لست في حاجة إلى الإشارة إلى أهمية عامل الوقت وعدم التباطؤ في أي إجراءات مطلوبة بشكل عاجل لإصلاح الوضع، خاصة وأن أكبر عيوب إعادة هيكلة الديون الرئيسية هي أنها تأخذ وقت وجهد للتفاوض بتقديرات من (9 شهور لـ سنة) مع الدائنين (حال الوضع الاستباقي)، وبالذات حال وجود كم كبير من الديون، لذلك مرة أخرى، الاختيارات أمام مصر محدودة في الأساس ومحكومة بفترة زمنية محدودة للغاية.
على مدى أعوام عدة، قد طالعت الموقف الاقتصادي برصد ودراسة دقيقة، وتقدمت كما تقدم آخرون بأطروحات متعددة من إصلاحات هيكلية هادفا لتدارك الوضع الراهن ومنعا من الوصول إلى ما هو أسوأ، وقد تدرجت في رؤيتي بدءًا من الإصلاحات الهيكلية مرورا بالحلول الوقتية العاجلة وصولا إلى الممكن بعد فوات الوقت، وأظنني ها هنا قد ادركت المحطة الأخيرة من الحلول ووصلت مبلغ علمي مما يمكن الإرشاد به.. اللهم إني بلغت اللهم فأشهد.