لصوص المقابر
رحل مصطفي درويش، الفنان الشاب، بتاريخ فني قليل، تاركا خلفه تاريخا حافلا كبيرا؛ بسبب مواقفه الإنسانية تارة والجدلية تارة أخرى.
تصدر مصطفي في الأيام الماضية محركات البحث.. ونال تعاطفا كبيرا بسبب تلك المواقف.. ولعل ذلك جعل من البعض استخدام مواقفه للظفر بمكاسب حثيثة.. وهو حال الكثيرين في تلك المواقف.. أو ما يسمى بنظرية الاستقطاب.. وركوب الأمواج.. أو كما أسميهم “سارقي المقابر”.
الأولى دائما في مثل تلك المواقف هي الترحم على من رحل.. لا الخوض في تفاصيل مزعجة يشمئز منها أصحاب العقول والقلوب الرحيمة.. وإن كان الواقع مؤلما لما نراه من حولنا فلا بد من التفنيد لبعض النقاط الجدلية.. من وجهة نظر ربما يجانبها الصواب أو تكون هي عين الحقيقة.
مواقف وتصريحات مصطفي درويش هي:
1- مواقف إنسانية عظيمة
2- تراشق وتراجع وجدال وانسحاب
3- معاناة قديمة وظيفية واغتراب بالسعودية
ولعل المواقف الإنسانية لا يجوز فيها التفنيد والدخول في معترك يخصها.. فهي بكل الأحوال تعود إلى نوايا صانعها.. فهناك دائما وأبدا من يعطي سرا.. وله الأجر والمثوبة.. والآخر من يعطي علنا حتى يقتدى به الآخرون في العطاء.. والنوايا يعلمها من يطلع على قلوب البشر.
برزت على السطح أيضا من جديد معركة حامية الوطيس بين محبى الرجل كمبدع.. وما بين أصحاب (السلفنة الدائمة)
والأخيرين من ركاب موجة التقديس والتنزيه.. وصنع الهالات لشخصيات حالها حال البشر.. تصيب وتخطئ.. فتعود وتستغفر.. وتدرك أخطائها وتكمل.. وتتدبر وتعقل. وهى أمور حثنا عليها ديننا الحنيف دائما وأبدا.. بالتدبر والتفكر والتعقل.. ولكن هم ( المتسلفنون) لديهم مبدأ راسخ في عقولهم وقلوبهم والبعض مجبر على ذلك.. بمبدأ السمع والطاعة.. وهو أمر منافى لفكرة التقرب الى الله في حد ذاتها أو تدبر المعاني القرآنية.. أو حتي في فهم مايدور من حولنا.. هم فقط يريدون من يلقون عليه المسؤولية.. فيصنعون منه تلك الهالة العظيمة من التمجيد والتقديس وعدم المساس بشخصه الكريم.
والحقيقة أن صاحب تلك الهالة المقدسة ربما يكون غير راض عن نفسه أو عن آرائه.. ويراجع نفسه مرارا وتكرارا.. ويفكر ويتدبر ويعود ويستمر.. لكنهم وبحكم الإنقياد وعدم تحمل المسؤولية وضعوا كامل الأمر فيه وحده.. وهذا غير صحيح.. ربما. فهو بمن حوله.. وبمن يعينه ويعاونه. ويناقشه ويجادله.. ويطرح له أفكارا.. فتنير له الطريق.
ولذلك برزت من جديد حالة الجدال التي حدثت بين مصطفي درويش بسبب انسحابه من فيلم “الملحد” لإبراهيم عيسي.. مبررا بذلك حينها أن هناك تطاولا وحربا ممنهجة على الإسلام بقيادة إبراهيم عيسي.. والذي كما قال مصطفى وغيره إن الرجل أنكر رحلة الإسراء والمعراج.. وهي من الثوابت التي لا يجوز هدمها أو الخوض فيها حسب آرائهم..
وكمتابع لكلا الرأيين.. وبتجرد تام.. ستجد أن إبراهيم عيسي لم ينكر الحادثة من الأساس بل كان يدعو للتفكر والتدبر.. وربما غيرة مصطفي درويش أو الآخرين من الذين أيدوا فكرته ومازالوا.. ليس لديهم ذلك الفكر الرحب.. بأن يتمعنوا في آيات الله.. اعتادوا على الحفظ لا الفهم.. وهو أيضا منافي لأوامر إلاهية ذكرت في القرآن الكريم بتدبر المعاني..
ولعل أصدق الأقاويل حتى ينتهي هذا الجدال العقيم.. أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.. لم يفسر شيئا من تلك الحادثة.. وترك الأمر برمته لمن خلفه ومن كانوا حوله حينها.. فقط جاء في القرآن ماجاء.. وعليه صدق من صدق وأنكر من أنكر.. واستهزأ من استهزأ.. وأول من أول.. إذن نحن أمام حادثة أقرها الشرع.. ولم ينكرها أحد.. ولكن حتى الاجتهاد في التأويل درجات.. ومتوقف على عقليات أصحابها.. وتصوراتهم وتخيلاتهم.. أو بما فتح الله عليهم بصدق النوايا الخالصة له.
لذلك ستجد أن أبا بكر الصديق.. قال صدق رسول الله إن قال كذا وكذا.. وأولت زوجته الشريفة السيدة عائشة تأويلا.. وابن عباس.. وعلى امتداد العصور تحدث من تحدث فيها كرحلة كان الهدف منها في حقيقة الأمر.. كشف القلوب لرسول الله.. فمن معي.. ومن يصدقني.. ومن أقرب الناس إلي.. من هو سندي.. إن قلت كذا وكذا.. من المسلم ومن المؤمن.. من المنافق ومن المستهزئ.. من يستحق القرب مني؟
لم تكن حادثة لتؤكد أنه رسول الله.. ولم تكن حادثة لإعجاز البشر.. وإن كان ظاهرها شرع وتشريع.. ولكن باطنها لرسول الله لتبيان أمر من حوله.. ولمن سيأتي من بعده حتى قيام الساعة.
رحم الله مصطفي درويش وألهم أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان.. وليرحمنا الله جميعا من المغالين والمتفلسفين.. والخائضين في جثامين من رحلوا.