بإجماع الأمة الحب لا عيب ولا حرام
من القضايا التي يتحرج الكثيرون أن يسألوا فيها (لأنها عيب وحرام) حب الرجل للمرأة، وهم لا يعرفون أن الحب في الإسلام لا عيب ولا حرام؛ فقد تربَّيْنا على أن نحب ربنا.. نحب أبانا.. نحب أمنا.. نحب أجدادنا.. نحب إخواتنا.. نحب أبناءنا.. نحب جيراننا.. نحب القطط.. نحب الأشجار. أما واحد يحب واحدة يبقى فضيحة.
وفي المقابل تجد من ينحرف بهذا الحب؛ لينجرف إلى الرذيلة، وهؤلاء وأولئك لا يدرون أن الإسلام لم يأخذ موقفًا متشددًا أمام هذا الحب، بل إنه وقف نصيرًا له، ورفع منزلته.. فما حكم الإسلام في حب الرجل للمرأة؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم نرَ للمتحابين غير النكاح". (أخرجه ابن ماجة والحاكم والبيهقي والطبراني). هنا رسول الله لم يحرم الحب، وإنما نظمه، وأقرَّه.
روى ابن حزم الأندلسي (صاحب المذهب الظاهري الذي التزمت به الأندلس طوال فترة الخلافة الرائعة) في كتابه "طوق الحمامة" أنه قد جاء من فتيا ابن عباس في العشق قوله عن العاشق: هذا قتيل الهوى، لا عقل ولا قود.
والحب يكاد يكون العمل الوحيد، الذي لا يحاسب الإنسان عليه.. متخيلين؟ لماذا؟ لأنه شيء لا يُملك (كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وإنما هو أمر بيد الله، فإذا كان الأمر كذلك، فكيف يحاسبنا الله على أمر يملكه هو ولا نملكه نحن؟!
ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم وجَّه أصحابه عند نيتهم خطبة إحدى النساء أن ينظروا إليها، والمقصود بذلك النظر المتتابع، حتى ولو كانت لا تعلم ذلك، فكان من الصحابة من يطاردها مطارة شديدة، وكان هناك من يختبئ لها وراء شجرة، وهذا في حال نية الخطبة، وقد لا تتم، وقد تتم، فهل يأمر الرسول بأمر أحد احتماليه عدم الزواج، ويكون بهذا حرامًا؟!
وعن سهل بن أبي حثمة أنه قال: "رأيت محمد بن مسلمة يطارد بثينة بنت الضحال فوق أجران لها ببصره طردًا شديدًا، فقلت: أتفعل هذا وأنت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا أُلقيَ في قلب امرئٍ خطبة المرأة فلا بأس أن ينظر إليها". (الحديث رواه أحمد وابن ماجه والطحاوي).
الحب في الإسلام
وفي الصحيح كان مغيث يمضي خلف زوجته بريرة بعد فراقها له، وقد صارت أجنبية عنه، ودموعه تسيل على خديه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا ابن عباس، ألا تعجب من حب مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثًا، ثم قال لها لو راجعتِه، فقالت: أتأمرني؟ فقال: إنما أنا شافع، قالت: لا حاجة لي فيه". (رواه البخاري).
فالرسول صلى الله عليه وسلم تعاطف مع المحب، ولم ينهَه عن حبه، كما أنه بلغ تعاطفه مع المحب أن تَشفَّعَ له بنفسه عند من يحب، وهذا أمر تثقل دونه الجبال، ولم ينهَ مغيثًا عن حبه لبريرة، حتى بعد أن رفضت بريرة الزواج منه، أي أنه لم يُحرِّم حبه لها. وكيف يُحرِّم هذا الأمر وهو يقول عنه إنه لا يملكه؟! كما أن مغيثًا كان يمشي وراءها ويبكي، وليس من المعقول أنه كان يمشي وراءها مغمض العينين. هو كان ينظر إليها، ويراها، ولم ينهَه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهو أمر يرتبط بالمحب ارتباطًا لاإراديًّا، فلا يستطيع المحب أن يمر من يحبه أمامه ولا ينظر إليه.
وعلق الإمام ابن حجر العسقلاني (شارح البخاري) على هذا الحديث بقوله: "فيه أن فرط الحب يُذهِب الحياء لما ذُكِر من حال مغيث وغلبة الوجد، حتى لم يستطع كتمان حبها، وفي ترك النكير عليه بيان جواز قبول عذر مَن كان في مثل حاله ممن يقع ما لا يليق بمنصبه إذا وقع بغير اختياره".
وقال الإمام الصنعاني في تعليقه عليه أيضًا: "ومما ذُكر في قصة بريرة أن زوجها كان يتبعها في سكة المدينة، ينحدر دمعه لفرط محبته لها. قالوا: يقصد العلماء فيُؤخذ منه أن الحب يُذهِب الحياء، وأنه يعذر من كان كذلك إذا كان بغير اختيار منه". (سبل السلام، ج: 3، ص: 278).
الحب في الإسلام
وقال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يا أمير المؤمنين إني رأيت امرأة فعشقتها، فقال عمر: ذاك مما لا يُملَك". (رواه ابن حزم بسنده في طوق الحمامة).
وقال عمر بن الخطاب أيضًا: "لو أدركت عفراء وعروة لجمعت بينهما". (رواه ابن الجوزي بسنده). وعروة عاشق عذري وعده عمه بالزواج من ابنته عفراء بعد عودته من سفر للتجارة، ثم زوجها لرجل من الأثرياء.
وقال هشام بن عروة عن أبيه: "مات عاشق، فصلى عليه زيد بن ثابت، وأحد كتاب الوحي، وجامع القرآن الكريم، فقيل له في ذلك، فقال: إني رحمته". (رواه ابن القيم في روضة المحبين ونزهة العاشقين).
لأن الأمر كما ورد في الحديث: "الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف". (رواه البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم)
قال ابن القيم (أنبغ تلامذة ابن يتيمة ومن علماء السلف المتشددين) في كتابه "روضة المحبين ونزهة المشتاقين": لأن العشق مما لا طاقة للعبد به – كلام فيه نظر؛ لأننا لو دققنا في الأمر، لوجدنا أن المقصود ليس الحب في ذاته، ولكن وجود الحب مع الحرمان من المحبوب؛ لأن الأحاديث – كما ذكرنا في البند الثاني – أثبتت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب، فكيف يتفق ذلك مع دعوة المؤمنين لله بألا يحملهم ما لا طاقة لهم به، ولم يكن الله ليحمل الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا طاقة له به؟! إذن المقصود هو ألا يحملهم الله الحب مع الحرمان من الحبيب؛ فذلك هو ما لا طاقة للإنسان به.
وحديث عائشة "أُريتُك في المنام" يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحب عائشة قبل أن يتزوجها.