علاقات مسمومة
بين الفينة والأخرى، يراودني شعور بأن قلبي شاخ بمواقف البشر، حتى أطبقت الدنيا عليّ بضمتها فأوقعتني أرضًا بسياطها أمام عواصف الزمن، ولكن سرعان ما أهمس في أُذنٍ وأُهمهم في أخرى مناشدًا ذاتي أن لا تنغمس في وحل هذا الوهن الذي يظل ينخر في العظام عبر مفاصل الواقع المُضني، فلم تعد قوتنا بإنسانيتنا التي كانت تعكس عمق مشاعرنا، وأصبح البعض يعاني من واقعٍ قاس ومضجر لا يشبه فيه سكانه الآخرين.
علاقات مسمومة
على يقين تام أنني لست وحدي، وأن الدروب ليست ممهدة ومليئة بالمنعرجات هنا وهناك، وأن تناوب الانكسارات والإنجازات، والهبوط والصعود، مفردات تظل سرًا من أسرار الكون وعمارته، لذلك يجب علينا أن لا ننكأ جراح الماضي عسى الزمن يُضمدها، لننهض ونلحق بالركب من أجل الوصول إلى المبتغى؛ لأن الحياة تمضي لا محالة وعقارب الساعة لا تعاني من الضمور، فضلا عن أن القيم السلبية التي تكسو وتتسيد علاقاتنا مع الآخرين لا تستقيم أن تكون السائدة فتنحدر بالمجتمع بدلا من الارتقاء به نحو النضج الروحي الحقيقي.
دعنا نسعى لاستجماع أنفسنا وإيجاد ولو قليلا من التحفيزات الذاتية، لنحصل على الأجوبة التي طالما كنا نبحث عنها وأحدثت بداخلنا فجوات عميقة، بعد أن نخرت ضفافنا المترققة الأحمال الثقيلة التي خيمت على ظهورنا المائلة، فكلنا متعبون بالخطايا التي أنهكتنا ولو كنت تظن خلاف ذلك لاصطدمت بقول الحق: "وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم"، ما يدفعنا لمعانقة السماء الشامخة للارتواء بينابيع الرضا التي تُضيء أسارير الأفئدة برونق الحياة، فيعود النبض في جذور شجرتك وتزدهر وتقوى الأوراق الخضراء المتبقية وتتحدى الصمود لبقية عمر قد بات لا يعنيه شيء فتنعم بالسلام والاستقرار النفسي.
لا شك أننا نخوض غمار المعارك الطاحنة التي شنّتها الحياة بداخلنا وسط متلازمة زمنية معقدة جدا، إن دلت على شيء فإنما تدل على أنه يوشح السواد الأعظم الأنين من غفلة الرقيب الذاتي، وفاقة في الحالة، بعد أن تجاذبتنا أصابع الدهر، حقا إنه شعورٌ مُقيت فلا تدع نفسك لتلابيبها وارتقِ بذاتك لتدرك القيمة الحقيقية للأشياء لتتحول إلى سفاسف ضئيلة ربما لا ترى بالعين المجردة فتترفع عنها، واهدم ما شاخ وتهالك من قلبك لتساعده على بناء ما تبقى، فتشعر أن هامتك تحلق بل تلامس عنان السماء، حتى تصل السفينة إلى مرفئها الأخير ويفترق الركاب، فتكون من الذين قال عنهم الحق: «لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ».
لا أدعي أنني صاحب العقل الرشيد ولكن أشفق وربما أتعجب من أولئك الذين يظنون أن عقولهم متفردة ذات قوام ممشوق، رافعين شعار واثق العقل يمشي ملكا، لا سيما وإن كانت طبيعة النفس البشرية حريصة على الغلبة والظفر على المخالفين فتتغلل فيها الكبرياء والعناد البغيضين، هذه العقول التائهة المبعثرة التي تأبى العودة إلى صوابها عساها تقرأ ما بين السطور فتخوض غمار تحدي فحص الذات الذي يمثل جولةً في غياهب ومتاهات النفس، فتعيد اكتشاف أسرار وتفاصيل شخصيتها المختلفة.
الناس يتصارعون، يتنازعون، يتكالبون، ربما يتقاتلون حتى على أبسط الأشياء، الجميع على عجلة من أمره للسيطرة وتحقيق غايات دنيوية دنيئة، بينما أراقب الأمور عن كثب من بعيد في عمق وهدوء مستظلا بالصمت المُقيد والساخر في ضوء شاحب خفيف، مخُتلسا النظرات الذابلة لما يجول حولي من ثمة شعور غامض، متسائلًا علاما كل ذلك وماذا بعد؟ وإلى أين؟ حامدًا ربي شاكرًا فضله أنه أختار ليّ البعد عنهم، فعلى الباغي مبتغاه.
أرهقتنا العلاقات المسمومة التي أوقفتنا على هاوية الصمت وسرقت منا أبسط الأشياء، فدفعتنا للاستغناء وتفادي الكثير من بني البشر لتحقيق ما ننشده من طمأنينة.
الهواء الممهور والمغموس بعجينة النفاق يلوح بأفقه من كل حدب وصوب، فيرمي بزاده في جوف أولئك الذين تنطوي نفوسهم على طبائع سيئة وعادات خاطئة وأفكار مشوشة، فيظهر ذاته على غير حقيقتها وسجيتها وفطرتها ويتخذ إرادة مغايرة لما ينبغي أن تكون عليه، كما أن الحياة أصبحت لا تستقبل إلا القاسية قلوبهم ومن يتعمدون شرخ مشاعر الآخرين بقصد أو خلافه، ثم يحاولون التئامها بعبارات منمقة لا تُسمن ولا تُغني من جوع فتترك غصة وأثرًا إلى بقية عمر يسير في حركة جريانية ثقيلة، فهنيئًا لمن أبحر في بحور السلام.