عندما يصبح الفَقرُ فِكرًا
إنَّ الفَقرَ ليسَ وضْعًا اقتِصاديًّا فقَط، إنَّه وَضعٌ مِن أَوْضاعِ البَشَر؛ وضْعٌ عَام، يَتصرَّفُ فِيهِ الإِنْسانُ بفَقْر، ويُفكِّرُ بفَقر.. هكذا قال الكاتب الراحل يوسف إدريس في كتابه (فقر الفكر وفكر الفقر).
رغم ما وصل إليه العالم اليوم من تقدم وتطور في شتى المجالات، وخاصة الذكاء الاصطناعي، الذي سيطر وسوف يسيطر على كل شيء، إلا أن الكثير منا لا يزال فقيرا!
إنه فقر الفكر لا فقر المال، فقر الإنسانية، فقر منظومة القيم الأخلاقية في الحديث والمعاملة وحتى البيع والشراء.
فالفقر له فكر معيَّن، وحين أقول الفقر لا أعني شدة الاحتياج فقط، ولا أعني هبوط المستوى المادي لشخص ما، ولكن الفقر الحقيقي قد يكون لأناس ميسوري الحال، ولكن طريقتهم في التصرُّف في ثرائهم فقيرة غاية الفقر.
إذا من هو الفقير؟ إنني أعرف فقراء يَعيشون بصعوبة، ولكن ثراءهم الروحي والفكري يُتيح لهم أن يستمتعوا ويُمتِّعوا مَن حولهم.
إن الفقير الحقيقي هو الذي يكون هواه تابعا لهواه، فيسمح لنفسه أن يفنيها في أسافل الأمور، حينها لن يستطع أن يغير حياته ويتخلص من هذا الفقر إلا إذا استطاع أن يغير اتجاهاته العقلية، فقديما قالوا: حياة المرء هي ما تصوغها أفكاره.
الحقيقة نحن بحاجة إلى إعادة صياغة مفهومنا حول الفقر، فوجود المال في اليد لا يعني غنى إذا كان العقل فقيرًا، وشحه فى أيدٍ أخرى لا يعني فقرًا لو كان العقل غنيا.
من المحزن أن أرى هؤلاء المفلسين فكريًا يزدادون شهرة يوما بعد يوم، وإن ما يزيدني حزنا أن السبب في شهرتهم هو نحن!
نحن من صنعنا منهم نجوما رغم ما يعانونه من إفلاس فكري، نحن من نشاهد محتواهم السخيف، هذه المشاهدة التي تصب عليهم الأموال صبًا صبًا، وحتى إن كنت تنتقدهم بعد مشاهدتك لهم فأنت أيضا تساهم وتساعد في شهرتهم، فالشهرة اليوم لا تقاس بالمحتوى الفكري الهادف وإنما تقاس بعدد المشاهدات.
وبالرغم من وجود أرقى الجامعات والكليات في بلادنا ورغم التطور العلمي والتقدم الحضاري ووجود التكنولوجيا المتطورة بين أيدينا إلا أن بعضنا لا يزال وكأنه يعشق التخلف رغم تعامله مع تلك التكنولوجيا ورغم تخرجه من الجامعة.
لدينا من المتعلمين الذين تعلموا فقط لنيل الشهادات ليعلقوها على جدران منازلهم، الكثير والكثير من هؤلاء لا يفكرون إلا متى سيقبضون رواتبهم ومتى ستنتهي ساعات العمل التي يفتقدون فيها لكل أخلاقيات العمل، لا يفكرون حتى في قراءة صفحة من كتاب، وحتى إذا قرأ الواحد منهم فهو لا يقرأ لنفسه! لا يقرأ إلا الكتب ركيكة المحتوى التي يروج لها على وسائل التواصل الاجتماعي بجنيهات مأجورة، فهو فقير حتى في اختياره للكتب التي من المفترض أن تزيد ثقافته، فهو والله محروم، ولم يستطع بعد أن يتحرر من التقليد الأعمى والتبعية الحمقاء حتى في تكوينه الثقافي!
هكذا نحن وستسوء أحوالنا رغم تقدم مجريات العالم بأكمله ما لم نرجع لأنفسنا ونقف معها وقفة تساعدنا على نظافة فكرنا وسلامة عقلنا، فما فضلنا الله على غيرنا من المخلوقات إلا لوجود العقل فينا، فالله الله في عقولكم.