عمّا طرحه «دويتشة بنك»..
التعويم أم اللا تعويم.. أتلك هي المشكلة؟
تابعت باهتمام شديد التقرير الأخير الصادر عن «دويتشة بنك»، بشأن الاقتصاد المصري والجدل الدائر حول سعر الصرف والتعويم، وهو بمثابة أول تقرير دولي يدعم وجهة النظر الحكومية بخصوص سعر الصرف في الدولة وإلى أي مدى هناك مرونة في تحديد سعر الصرف وقيمة الجنيه المصري مقابل الدولار.
عرض التقرير وجهتي النظر بشأن الموقف من تعويم الجنيه وتحديد قيمته الحقيقية، وخلص إلى أنه من غير المرجح أن يحقق تخفيض آخر لقيمة الجنيه ما فشل في تحقيقه المرات الثلاث السابقة منذ مارس 2022 والتي سببت فقدان الجنيه المصري أكثر من 50% من قيمته أمام الدولار.
التقرير كذلك حذر من أن مصر إن لجأت إلى تعويم جديد قد تتورط أكثر في تخفيض شديد لقيمة عملتها، بما سوف يساهم في زيادة التضخم المرتفع بالأساس، كما سوف يعظم سياسة التشديد النقدي وكلفة التمويل، كما أن هذه الخطوة لن تكون مجدية في تشجيع التدفقات الوافدة.
رأى التقرير أن السعر الرسمي الحالي عند 31 جنيها للدولار هو سعر عادل، مع الإشارة إلى توقعات لسعر الصرف عند نهاية العام لتصل إلى 37 جنيهًا، ما يزيد احتمالات انخفاض قيمة العملة في النصف الثاني من 2023.
وفي ضوء ذلك فقد تحدث البنك الألماني الشهير، عن أن التحديات الرئيسية أمام مصر هي عودة التدفقات الوافدة مرة أخرى، والحل طويل الأمد الذي طرحه لذلك هو زيادة آجال استحقاق رصيد ديوننا في الوقت الحالي.
وفي وجهة نظري، فإن التقرير الذي تبنى وجهة نظر مبنية على فرضيات جدلية نوعا ما، يستدعي ثلاثة تساؤلات وجودية حال الإجابة عنها سوف تقودنا إلى فهم طبيعة الوضع الذي نمر به، أولها ما الذي تحاول الحكومة تحقيقه حاليا في معركة سعر الصرف؟ والثاني عن مصير الاتفاق الذي أبرمناه مع صندوق النقد والذي يتمسك بشكل قوي بمرونة سعر الصرف؟ وأخيرا مدى قابلية جدولة أو تمديد آجال الديون المستحقة علينا؟
أما بالنسبة لمعركة سعر الصرف الدائرة الآن والحديث عن أن الجنيه مقوم بأقل من قيمته، فيجب رد الأمر إلى أصله، خاصة وأن معرفة القيمة الحقيقية للجنيه تتطلب بشكل مباشر ترك تداول العملة لسوق العرض والطلب دون أي تدخل من الدولة.
وفي حالة افترضنا أن الجنيه مقوم بأكثر من قيمته، فكيف سوف نستطيع الاستمرار في الضغط على السعر، في الوقت الذي يجري الحديث فيه عن صعوبة إتمام التعويم دون قوة ضاربة firepower أو احتياطيات تسمح بإشباع الطلب على العملة حتى لا يحدث سقوط حر وهذا سيناريو له وجاهة واحتمالية معتبرة.
الفكرة أنه في نفس الوقت الذي ندافع فيه عن السعر الحالي وأن الجنيه مقوم بأقل من قيمته، على عكس قواعد العرض والطلب، نحتاج أيضا إلى الـ firepower، وإلا فإن النمو الاقتصادي سوف يتأثر بالسلب وأيضا سوف يزداد التضخم بشكل يحدث تبعات سلبية على الوضع الاقتصادي للدولة والأفراد.
وهذا الأمر يأخذنا إلى التساؤل الثاني.. ما الذي يريده صندوق النقد منا بالضبط؟.. خاصة وإن وضعنا في الاعتبار أن مرونة سعر الصرف والدعم من دول مجلس التعاون الخليجي نقاط محورية لبرنامج صندوق النقد الدولي بالأساس.
الإشكالية الأكبر التي تجاهلها التقرير هي أن التعويم في أصله ليس هدفا، على العكس من توافر العملة وحرية تداولها وهذا هو الأصل الواجب الانتباه إليه، بالإضافة إلى أن إيصال الجنيه لسعر معين مقابل الدولار ليس هدفا في حد ذاته على الإطلاق.
فأي حديث يأتي عن الخيارات سواء تعويم أو لا تعويم، يتناسى في جوهره النقطة الأساسية وهي مرونة سعر الصرف، فلا أحد يريد سعر صرف معين، ولكن سعر صرف عادل وحقيقي يسمح بتوفير العملة بالقدر الملائم لاحتياجات السوق.
البنك رأى عدم الحاجة إلى التعويم وأن نلجأ إلى إعادة جدولة الديون، وهنا يأتي دور التساؤل الثالث، وهو مدى إمكانية تأجيل الديون المستحقة، خاصة وإن وضعنا في الاعتبار أن 60% من ديون مصر الخارجية في الأساس لصالح صندوق النقد ذاته والمؤسسات المماثلة، ودول مجلس التعاون الخليجي.
ففي الوقت الذي يطلب فيه البنك عدم تنفيذ اشتراطات الصندوق بشأن التعويم والذي يربطه الصندوق باستمرار برنامج دعمه للاقتصاد المصري، يرد تأجيل ديوننا لدى الصندوق، وهو أمر غير منطقي وغير قابل للتنفيذ، في حين أن حل الأزمة دون ذلك تتطلب الاستدانة من جهات أخرى لسداد ديون الصندوق، وهذا الأمر بالطبع سوف يكون بشكل أكثر تكلفة ولا يمثل حلا للأزمة أكثر منه زيادة الطين بلة.
لا خلاف أن الوضع الحالي "اللا سلم واللا حرب".. لا تعويم ولا وجود للدولار ولا سعر عادل، مضر للاقتصاد ويؤذي في تبعاته محدودي الدخل وأصحاب الأموال في ذات الوقت، في حين أن اللجوء إلى التعويم والسعر المرن يتطلب التوسع في برامج الحماية الاجتماعية حتى لا يتأثر محدودو الدخل بتبعاته التضخمية.