الناجون من العطش.. قصة قصيرة لأحمد عبد العزيز صالح
أشعة الشمس الحارقة أصبحت أكثر قسوة من سهام رماة جيش الملك الجديد المنقلب على ملك البلاد، في كل دقيقة يسقط أحد الهاربين مغشيًا عليه من شدة الحرارة وانعدام الماء، الملكة الشابة تقاوم تعبها وتصيح بهم من حين لآخر أن يصمدوا حتى يصلوا للواحة وترتاح الأجساد وتبتل العروق، قافلة من الهاربين الضعفاء، فقط مجموعة من خدمها ووصيفاتها وبعض رجال المعبد المتمسكين بعبادة آتون.
صحراء ممتدة لا يوجد بها غير اللون الأصفر بدرجاته، لا شيء أصعب من قيادة مجموعة من اليائسين الضعفاء، الكاهن العجوز يقود القافلة بصمت مطبق ولا يُحدث أحدا غير الملكة، نجت من الموت بأعجوبة بعد أن لامست السيوف جسدها عدة مرات وكادت تفتك بها وتجعل مصيرها مثل مصير الملك الثمل الذي فارق الحياة وهو مخمور، لم يُفرّق بصره بين جارية ترقص أمامه وجندي يقفز فوقه ويغرس نصل السيف بصدره.
الكاهن يعرف الطريق إلى الواحة بالنظر للسماء ومتابعة حركة قرص الشمس، مصيرهم كلهم مُعلق بثقتهم بمعرفته وأنه سينجح بلا شك في النجاة بهم، كانت ليلة عاصفة بالأحداث بعد أن اقتحم جنود معبد آمون القصر وقتلوا كل حراسه ووصلوا للملك نفسه وقتلوه وخلصوا المملكة من نزواته وشطحات عقله وقراره بعبادة الإله الجديد.
ليلة اجتمع فيها الغرور بالخيانة بالضعف برغبة الأغلبية في العودة للإله القديم، كان قضاء الملكة أغلب وقتها بالمعبد السبب الوحيد في نجاتها هى ومن معها من أوفياء مخلصين، ساعدهم الظلام الدامس على الهروب والنجاة من السيوف المتحمسة الباحثة عن قطع الرقاب.
عربة واحدة يجرها حصان وعدة أحصنة أخرى يقودها عدد قليل من الحراس وباقي القافلة من الخدم العاجزين عن القتال أو حتى الدفاع عن أنفسهم، فقط جمعهم مصير واحد وصحراء واحدة لم يعرفوا لها نهاية منذ ليلتين ونهار كامل.
الكاهن العجوز رغم جفاف شفتيه واحمرار جبهته ورأسه الصلعاء، مازال يساند الملكة المصدومة ببعض عبارات تنتهي كلها بإسم الرب آتون، لن يتخلى عنهم الرب ولن يرضى أن يكون مصيرهم مثل ضحايا المملكة وكل من وصل إليهم جنود الملك المنقلب.
الملكة شاردة ترفض أن تُصدق أن الملك قد قُتل وقطعت رأسه، رغم كل ما كان بينهم من جفاء في أيامهم الأخيرة، إلا أنها لا تطيق تخيل أن حبيبها القديم قد قُتل هكذا بكل بساطة وسط جنوده وفوق عرشه، حذرته عشرات بل مئات المرات من إنقلاب أعدائه عليه وسعيهم المستمر لعودة آمون، فقط كان يبتسم وهو يُلقي بكأسه بقوة زائفة مدعيًا أنه الأقوى ولا أحد يستطيع هزيمته.
أحد الخدم يعدو نحو عربتها وهو يصيح بفزع ويشير للخلف، ثمة غبار يظهر خلف قافلتهم من بعيد، بلا شك جنود الملك الجديد يتبعونهم من أجل القضاء عليهم، الكل يُصاب بالفزع والكاهن يقطب حاجبيه بغضب ويأمرهم بسرعة السير والفرار، رأس الملكة أهم من أي شئ الآن، قتلُها يمحو أي فرصة لورثة الملك عابد آتون في الإستيلاء على حكم المملكة من جديد.
الواحة مازالت بعيدة ويلوح في الأفق جبل مرتفع، قائد الحراس يأمرهم بتغيير خط السير والإتجاه نحو الجبل، الإختباء أسلم من مواجهة المجهول القادم نحوهم، الكاهن يصيح فيهم ويأمرهم بالسير في ثلاث مجموعات، تشتيت المجهول القادم خلفهم أمر بالغ الضرورة والأهمية، الجبل يقترب وغبار المجهول يقترب هو الآخر، الملكة تنظر للخلف وهى تترك للكاهن قيادة العربة، ترى الغبار خلفهم كما لو كان إله الموت قابض الأرواح.
تشرد ثم تبتسم وهي تتذكر صباها وهي تعدو مع الملك وهم صغار في حديقة القصر، بلا شك بعد أن ضُرب عنقه بالسيف، فاق من سُكره وتذكر حبهما وطلب من إله الموت أن يذهب خلفها ليعيدها إليه ويحيا معًا في الحياة الأبدية المنشودة، الحنين والرغبة في العودة لصباها يجعلونها تجذب لجام حصان العربة من يد الكاهن وتأمره بالتوقف، السيوف تبحث عن عنقها، ولا ذنب للهاربين في ذلك ولا ضرورة أو فائدة من موتهم حتى يصلوا إليها، إتخذت قرارها، قرار ملكي لا يُناقشها فيه أحد ولا حتى الكاهن العجوز الجالس في مقدمة عربة الهروب.
جلست فوق الرمال الحارقة وخلعت تاجها ووضعته أمامه بتبجيل وهي تنتظر وصول السيوف وعبورها بوابة الخلود والعودة للملك العاشق صبيًا، أفراد القافلة يترددون ويقفون ثم يقررون البحث عن النجاة.. وما ذنب الضعفاء فيما صنعه الملوك؟.
جلست بين غبارين، غبار المجهول القادم وغبار قافلة الهاربين، لا شيء تفعله الآن أفضل من غناء أغنيتهما القديمة في حديقة القصر، لقاء السيوف القاسية وهى تُغني يجعلها تموت وهي مبتسمة، كم تحب أن تلقى الملك وعلى وجهها ابتسامتها التي أحبها من كل قلبه وكتب فيها الشعر ودونه على جدران معبد إلهه الجديد.
الغبار يقترب وصوت غنائها يرتفع وابتسامتها تزداد اتساعًا قافلة الهاربين تصل للجبل ويبحثوا عن مخبأ لهم، تُغمض عيناها وتنتظر لحظة فتح باب الخلود، لكنها تشعر بلمسة حانية على وجهها بدلًا من نصل السيف.
إنه الملك الابن، هرول خلفها لإنقاذها من الموت تائهة في صحراء لا توصل أبدًا للواحة، تأملت وجهه ثم شعرت برغبة عارمة في الهدوء والراحة، شربة ماء وأغشي عليها وحملها هو وجنوده للعودة للديار من جديد، فقط لم تجد فرصة قبل أن تُغمض عينيها أن تطلب منه إنقاذ الهاربين الباحثين عن الواحة، فقط ظلوا يتابعون ما يحدث من خلف الجبل ويعتقدون أنهم وحدهم الناجون.