الإثنين 23 ديسمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

رجل مسيل للدموع

الجمعة 14/يوليو/2023 - 04:45 م

في نص الثمانينات وتحديدا سنة 1986، ورغم إن وقتها تقريبا مكانش فيه فضائيات، انتشرت بشكل سريع أغنية "بولا بولا بالومبيلا" اللي كانت بتغنيها طفلة اسمها "نادين" ومعاها كورال من الأطفال.. أغنية لطيفة، وعايشة لحد دلوقتي ومرتبطة بطفولة معظمنا!.. في ابتدائي في أوائل التسعينات قررت مِس "رانيا" مشرفة النشاط الفني في المدرسة إنها تخلينا نغني استعدادًا لحفلة نهاية السنة.. قبل نهاية كل سنة دراسية كان بيبقى فيه حفلة فنية بيشارك فيها طلبة كل فصل بـ عمل فني!.. فصل يعمل مسرحية، فصل تاني يعزف على آلات موسيقية، فصل تالت يغني أغنية، ورابع يقدم استعراض، وهكذا.. الفصل بتاعنا حسب تقسيمة مِس "رانيا" كان هيغني!.. تمام وماله، هنغني إيه؟.. هتغنوا أغنية "بولا بولا بالومبيلا".. أو بالنطق الصحيح بتاعها "فولا فولا".. تمام برضه هنغنيها بالعربي صح؟.. لأ هتغنوها بالعربي، بالإنجليزي، وبالإيطالي!.. لأ لحظة!.. إيطالي!.. أهو زى ما سمعتوا كده بالظبط الأغنية اللغة الأساسية بتاعتها إيطالي وعربي وهنترجمها إنجليزي وهتتغنى بالـ 3 لغات.. فيه 3 منكم هيغنوا، والباقيين هيبقوا كورال هيرددوا وراهم.. مين التلاتة؟.. "إنجي" بالعربي، "أحمد مرسي" بالإنجليزي، و"تامر" بالإيطالي.. كان فيه واحد تاني معانا في الفصل اسمه "تامر" وكان واقف قريب مني وهى بتتكلم.. بمجرد ما قالت الإسم بصيت له وحطيت إيدي على بوقي عشان أكتم ضحكة تريقة لإن أكيد هو المقصود.. "تامر عبده".. قالتها مِس "رانيا" بسرعة كإنها بتصحح غلطة أو كإنها حاجة مفروغ منها!.. سألت بـ رعب: (تامر أنا؟!).. ردت ببساطة: (فيه اتنين تامر عبده هنا؟).. قولت: (يا مِس أنا مش عارف الأغنية ولا أعرف إيطالي، إشمعنى أنا!، وأنا صوتي وحش أصلًا!).. ردت وهى متجاهلاني وبتوجه كلامها للفصل كله: (هتلحقوا تتدربوا معاكم لسه شهرين كاملين).. شهرين إيه بس وبتاع إيه!.. طب خليني من الكورال.. لأ.. حاولت أبدل مع "إنجي" أو "أحمد" إني أغنى عربي أو إنجليزي وهما ياخدوا الجزء بتاعي بس كل حد فيهم كان بيرمي الموضوع عليا كإنه تهمة.. كان الحل الوحيد المتاح هو إن كلمات الأغنية تتحفظ حفظ زى ما هى بالشكل والنطق ومخارج الألفاظ!:

 

Vola vola palombella

prima che scompaia la mia stella

e un bacino sulla fronte

porta al sol che spunta all'orizzonte

e se un chicco d’oro ti darà

un chicco di felicità

me lo presti amica bella?

 

المشكلة إني كنت بقف وبعطل بعد أول جملة "فولا فولا بالومبيلا" والحروف بتدخل في بعض بعد كده وبتهته زى العيال.. كل يوم بيفوت من الـ 60 يوم كنت بتأكد إني هكون مسخرة الحفلة.. يوم جر يوم وحاولت خلالهم كذا مرة بس كنت بفشل.. باقي 45 يوم.. كنت متعود إن والدي الله يرحمه هو اللي بيذاكرلي.. عادة فضلت مستمرة من إبتدائي يمكن لحد جامعة بس اللي اختلف إن في إبتدائي كان عنده إلمام باللي باخده في المدرسة سواء رياضيات أو علوم لكن لما تخصصت في كلية آداب بقت مذاكرته ليا قائمة على فكرة التسميع بس!.. حكيت له.. قالي هنحفظها سوا!.. تعالا يالا واحدة واحدة قول كده بالراحة وبدون توتر.. "فولا فولا".. تمام كمل.. "بالومبيلا".. حلو ما أنت كويس أهو ها كمل.. "بري مااا شِي سكووم بيا لااااميا استيلا".. سأل بصدق: (ده نوبي؟).. جاوبت: (نوبي إيه بس يا بابا!).. قال: (ما هو لو مش نوبي يبقى كلام سحر).. يادي النيلة.. بدأ والدي شوية بشوية ولما فهم اللي فيها وعرف إن ده طريق نهايته سد؛ يشيل إيده من القصة كلها، ويكتفي بالتشجيع مش بالتسميع!.. أنا واثق فيك.. أنت هتقدر.. بلاش توتر.. خليك هادي.. ماشي يا عم "عبده" خلعت نفسك أنت.. الحقيقة إنه ماكنش بيكتفي بس بكده لكن برضه ساعدني بزاوية تانية لما راح اشترى شريط كاسيت عليه بس الجزء الإيطالي من الأغنية بصوت "نادين" وبيتكرر ورا بعض لمدة ساعة إلا ربع!.. كل ما يخلص يتعاد وهكذا على الوشين ولحد النهاردة مش عارف هو جاب الشريط ده منين أو عمله إزاي!.. اللجلجة والتهتهة بدأت تقل عندي تدريجيًا بس بدون ما تختفي!.. باقي 25 يوم.. طلبوا مننا في المدرسة إن كل واحد فينا يعمل عمل فني باستخدام الورق المزركش الشفاف الملون.. أى شكل فيه محاكاة لحاجة موجودة حوالينا.. شكل كوباية.. حيوان أليف.. كورة.. وش بني آدم.. أى حاجة.. في الفترة دي أنا كنت موهوم بـ فكرة الكرافتة.. بحب تقسيمتها، وألوانها، والتعقيدة اللي في ربطتها.. قولت أنا هعمل بالورق المزركش كرافتة.. عملتها.. طبعًا كانت أبعد ما تكون عن شكل أى كرافتة تكون شوفتها في حياتك.. مجرد ورق مزركش أحمر وأخضر وأصفر داخلين في بعض وعاملين سوا حاجة مكعبرة مالهاش أى شكل ولا لون ولا طعم.. وريتها لـ والدي.. سألته عن رأيه.. جاوب وهو بيحاول يكتم ضحكة تريقة بس كنت لمحتها: (حلوة).. سألت: (بجد؟).. رد: (حلوة بجد).. وراح مغير الموضوع!.. باقي يومين على الحفلة.. كان الاتفاق إن والدي ووالدتي وأخويا هيكونوا حاضرين.. قبلها بيوم سمعت حوار داير بينهم وهو بيقول لها: (البركة فيكي إنتي وهيثم تكونوا معاه، أنا حاولت بس مش هينفع والأجازة اترفضت).. قالت له بنبرة كان باين فيها الحسرة: (بس كده هيزعل!).. رد: (غصب عني والله).. والدتي اتنهدت.. كمل كلامه: (وبعدين ده قال لك إنهم بلغوهم إن اللي هيحضر لازم يكون لابس بدلة وأنا ماليش في جو الخنقة دي!).. قولت بيني وبين نفسي يبقى هو ده السبب يا والدي العزيز مش فكرة الأجازة اللي اترفضت ولا حاجة.. تمام تمام.. صباح يوم الحفلة اعتذرلي عن الحضور بنفس الحجة اللي ماكنش عارف إني عرفتها من ساعات وأنا تقبلت الموضوع عادي بس كان جوايا تصميم غريب إني لازم أكون مميز في اليوم ده عشان أثبت له إني قدها.. في البروفة النهائية قبل الحفلة بساعة ونص كان بدأ موضوع اللجلجة، والتهتهة يرجع لي تاني!.. عرق.. رعشة في الإيد.. الوقت بيمر.. يالا الستارة هتفتح.. كنت أنا اللي هبدأ.. المقدمة الموسيقية اشتغلت.. الثواني بتفوت.. غنيت!:

 

Vola vola palombella

prima che scompaia la mia stella

e un bacino sulla fronte

porta al sol che spunta all'orizzonte

e se un chicco d’oro ti darà

un chicco di felicità

me lo presti amica bella?

 

المفروض إني بكرر الفقرة كلها مرتين ورا بعض.. المرة الأولى خرجت مني بمنتهى التخبط والقلق لدرجة إن أى حد سمعني بنسبة مليون% كان فاكر إني لسه حافظ الكلمات من 5 دقايق بس.. تقدر تفهم مأساوية الوضع لما تعرف كمان إني كنت سامع صوت ضحك من الكورال اللي ورايا!.. بمجرد ما خلصت آخر كلمة في الفقرة الأولى سمعت صوت تسقيف حماسي وحيد جاى من الصف التالت.. شخص ما قام فجأة ووقف وبدأ يسقف!.. كان والدي الله يرحمه!.. وزى نفس اللي حصل بالظبط بعدها بكذا سنة في فيلم "مافيا" في المشهد الأخير حصلت عدوى تسقيف من كل الموجودين اللي قلدوا أبويا لما حماسه اتنقل لهم، وبقى فيه فِرة تسقيف وراه!.. ما أخدتش وقت طويل عشان أنتبه إن أبويا كان لابس بدلة!.. ولابس فوق قميصه الكرافتة الملونة التافهة اللي من الورق الشفاف المزركش اللي أنا عملتها!.. الوقفة بتاعته قدامي والكلام اللي عيونه كانت بتقوله خلّوني أقول الفقرة التانية بشكل عظيم يمكن أحلى من اللي "نادين" نفسها كانت بتغنيه!.

• الكاتبة الأمريكية "إيرما بومبيك" واحدة من أهم الكتاب اللي ليهم بصمة في الكتابات الإنسانية اللي زادت شهرتها وانتشارها في العالم كله بعد وفاتها في التسعينات.. من ضمن أقوى المقالات اللي كتبتها هي مقالتها عن والدها لما قالت عنه: (لم يكن أبي يفعل شيئًا، فلماذا افتقدته إلى هذا الحد؟.. عندما كنت صغيرة بدا لي أن الأب مثل مصباح الثلاجة، ففي كل بيت مصباح في الثلاجة لكن لا أحد يعرف تمامًا ماذا يفعل حين ينغلق باب الثلاجة.. كان أبي يغادر البيت كل صباح وكان يبدو سعيدا برؤيتنا ثانية حين يعود مساء.. كان يفتح سدادة قارورة المخللات على المائدة حين يعجز الجميع عن فتحها.. كان الوحيد في البيت الذي لا يخشى النزول بمفرده إلى القبو.. كان يجرح وجهه وهو يحلق ذقنه، لكن أحدًا لم يتقدّم ليقبله أو يهتم بما حصل له.. حين يمرض أحدنا  نحن الأولاد كان هو من يذهب للصيدلية لإحضار الدواء.. كان دائمًا مشغولًا، كان يقطع أغصان الورد في الممر لباب المنزل ليومين ویعاني من وخزات  الأشواك ونحن نسير للباب الأمامي للمنزل. وهو الذي كان يُزيت عجلات مزلاجي كي تجري على نحو أسرع، وحين حصلت على دراجتي الهوائية كان هو الذي يركض إلى جانبي، وقطع ألف كيلومتر على الأقل قبل أن أسيطر عليها وحدي وأتعلم القيادة.. هو الذي كان يوقع بيانات علاماتي المدرسية، وقد أخذ لي صورًا لا تحصى من دون أن يظهر في واحدة منها، وهو الذي كان يشد لأمي حبال الغسيل المرتخية، وكنت أخاف من آباء كل الأولاد، إلا أبي لا أخاف منه.. أعددت له الشاي ذات مرة وكان عبارة عن ماء فيه سكر  دون شاي، ومع ذلك جلس في المقعد الصغير وأخبرني أنه كان لذيذًا، وبدا مرتاحًا جدًا.. عندما كنت ألهو بلعبة البيت كنت أعطي الدمية الأم مهمات كثيرة، ولم أكن أعرف ماذا أوكل من الأعمال للدمية الأب، لذلك كنت أجعله يقول: إنني ذاهب للعمل الآن، ثم أقذف به تحت السرير!.. وذات صباح، عندما كنت في التاسعة من عمري لم ينهض أبي ليذهب إلى العمل، ذهب إلى المستشفى ووافته المنية في اليوم التالي.. ذهبت إلى حجرتي وتلمست تحت السرير بحثًا عن الدمية الأب، وحين وجدته نفضت عنه الغبار ووضعته على الفراش.. لم أكن أتصور أن ذهابه سيؤلمني الى هذا الحد، لكن ذهابه لا يزال يؤلمني جدا حتى الآن وافتقده.

• الأب أول شخص هيسقف لك سواء كنت موهوب أو لأ، وهو الوحيد اللي هيتمنى تكون أفضل منه، واللي لما يتكلم عنك هيتكلم بفخر أكتر من غيره.. في الأكل بتعرف قيمة الملح لما بيغيب، ولما بيغيب الأب بتعرف قيمة حائط الصد اللي كان حايش عنك كتير من زعابيب الدنيا.. الأب كائن مسيل للدموع سواء بسبب ذكرياته الطيبة اللي بيسيبها ليك بعد ما بيمشي أو في بعض الأحيان بسبب معاملته السيئة اللي كان نفسك تبقى أفضل.. لو الأمومة هي الحنان فالأبوة هي الأمان.

تابع مواقعنا