التجربة الحزبية في عهد حركة يوليو
الأحزاب السياسية هي الوسيلة الفعالة للمشاركة في الحياة السياسية، والأداة الوسيطة بين الجماهير والسلطة، لذلك لها دور واضح في نظام الحكم في أي دولة.
وترجع نشأة الأحزاب السياسية إلى انتشار المبادئ والأفكار الديمقراطية، وظهور أنظمة الحكم النيابية، كما ترجع جذور نشأتها في مصر إلى العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، بعد أن مهد لها الطريق النهضة الفكرية التي أرساها محمد علي بنقله منجزات الثورة الصناعية من أوروبا لمصر، ثم تأسيس مجلس شورى النواب 1866، ومن بعدها قيام الحزب الوطني الذي عُرف بحزب الفلاحين عام 1879، وظهور أحزاب حول الصحف، فمن المؤيد ظهر حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية، ومن اللواء الجريدة الناطقة للحزب الوطني، ومن الجريدة تكون حزب الأمة.
كما كانت ثورة 1919 علامة بارزة في تاريخ النضال الوطني، امتدت تأثيراتها إلى مجمل الحياة السياسية والحزبية أيضا، وفاقت تأثيراتها الثورة العرابية، وكان من نتائجها إلغاؤها الحماية البريطانية على مصر، وإصدار تصريح 28 فبراير 1922 الذي اعترفت فيه بريطانيا باستقلال مصر من الناحية القانونية، وصدور دستور 1923، وكلها ظروف ساعدت على التطور السياسي والاجتماعي في مصر.
ويعتبر حزب الوفد أكبر أحزاب تلك المرحلة وأكثرها ارتباطا بثورة 1919، ورأسه سعد زغلول والتفت الجماهير حول الوفد حتى أصبح يمثل التجسيد السياسي للحركة الوطنية المصرية، وممثلا للأمة المصرية.
وظهرت بعض الأحزاب التي انشقت عن الوفد مثل الأحرار الدستوريين 1922، وكذلك حزب الكتلة الوفدية بقيادة مكرم عبيد، وأحزاب نشأت في ارتباط مع الملك والقصر مثل حزبي الاتحاد والشعب.
وخارج نطاق الأحزاب وُجدت أيضا جماعات وتنظيمات ذات طابع إيديولوجي مثل جماعة الإخوان المسلمين وحركة مصر الفتاة والتنظيمات الشيوعية المختلفة التي نشطت تحت الأرض.
كان يجب المرور على التجربة الحزبية في مصر، منذ نشأتها سريعا حتى نصل إلى المرحلة الجديدة في مصر بعد نجاح حركة الضباط الأحرار.
فقد كانت نظرة قيادة الثورة إلى الأحزاب سلبية حيث ربطت بينها وبين المصالح الخاصة والفساد، وكانوا يرون أن الأحزاب كانت تدفعها مطامع شخصية، وأنها سبب رئيسي من أسباب الفساد وتردي الأوضاع.
فقد أصدر مجلس قيادة الثورة قراره لتنظيم الأحزاب في 9 سبتمبر عام 1952 بهدف (تطهير الحياة السياسية من العناصر التي ساهمت في إفسادها خلال الفترة السابقة)، وبموجب هذا القرار تم إلزام الأحزاب بإخطار وزير الداخلية بأنظمتها الداخلية وأعضائها المؤسسين ومواردها المالية، بما في ذلك الأحزاب التي كانت قائمة والتي نص القرار على أنه يتعين عليها أن تعيد تكوين نفسها وفقا لأحكامه)
وقد حاولت الأحزاب التي كانت قائمة أن تكيف نفسها مع النظام الجديد والقيود التي فرضها علي الحياة السياسية والحزبية، ولكن لم يسعفها الوقت إذ سرعان ما صدر قرار الغاء دستور 1923 في 10 ديسمبر عام 1952 وأن الحكومة آخذة في تأليف لجنة تضع مشروع دستور جديد، حتى صدر بيان بحل الأحزاب.
بيان مجلس قيادة الثورة الصادر في 16 يناير عام 1953 وكان متضمنا حل الأحزاب السياسية التي قال عنها: (لما كانت الأحزاب علي طريقتها القديمة وبعقليتها الرجعية لا تمثل إلا الخطر الشديد علي كيان البلاد ومستقبلها، فإنني أعلن حل جميع الأحزاب السياسية منذ اليوم ومصادرة أموالها لصالح الشعب بدلا من ان تنفقه لبذر بذور الفتنة والشقاق).
وحدد الإعلان فترة الانتقال بثلاث سنوات مع تهديد (بالضرب بمنتهي الشدة علي يد كل من يقف في طريق أهدافنا التي صنعتها آلامكم الطويلة وتتمثل فيها رغباتكم وأمانيكم).
كما تم منع أعضاء هذه الأحزاب والمنتمين إليها من القيام بأي نشاط حزبي على أي صورة كانت (العزل السياسي)، وحظر تقديم أي مساعدة لهؤلاء الأشخاص في سبيل قيامهم بالنشاط الحزبي، وكذلك حظر تكوين أحزاب سياسية جديدة.
وبذلك انتهت رسميا تجربة تعدد الأحزاب، وبدأت قيادة الثورة في تأسيس تنظيماتها السياسية التي لم تأخذ طابعا حزبيا وإنما أقرب إلى هيئة سياسية عامة لملء الفراغ الذي ينتج عن الغاء الأحزاب.
وأعلن عن ميثاق تنظيم هيئة التحرير الذي تم إعلانه رسميا في 23 يناير عام 1953 فقد حدد ميثاق الهيئة اهم أهدافها كالتالي:
أ – تحقيق الأهداف والمصالح السياسية للشعب
ب – كفالة الحقوق والحريات الأساسية من الناحيتين السياسية والاجتماعية
ج – تبصير المواطنين بواجباتهم وحثهم علي التضامن والتضافر والعمل المنتج للنهوض بتبعات الإصلاح
وكان شعار هيئة التحرير (الاتحاد – النظام – العمل ) يعبر عن نظرة قيادة الثورة
واستمرت هيئة التحرير حتي 2 ديسمبر عام 1957، حتى تم الغاؤها بعد عدة شهور من اعلان قيام التنظيم السياسي الثاني في عهد الثورة وهو تنظيم الاتحاد القومي الذي تم تأسيسه تنفيذا لما ورد في الدستور المؤقت الذي صدر في 16 يناير عام 1956. فقد نص هذا الدستور في المادة 192 منه علي ان (يكون المواطنون اتحادا قوميا للعمل علي تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها الثورة وحث الجهود لبناء الأمة بناءً سليما من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية).
وتشكلت اول لجنة تنفيذية للاتحاد القومي في 29 مايو عام 1957 بقرار من رئيس الجمهورية.
وحددت اللجنة تعريف الاتحاد الجديد حينئذ بأنه (تجمع المواطنين الحاكمين منهم والمحكومين مجتمعين علي تحقيق هدف واحد هو المجتمع الاشتراكي التعاوني).
كما تضمن تعريف الاتحاد القومي أنه (منظمة قومية عربية تعمل علي تحقيق الوحدة العربية وبناء مجتمع تسوده الرفاهية ويتحقق فيه القضاء علي الاقطاع والاستغلال).
ومع تحديد اهداف الاتحاد القومي، كان واضحا الحرص علي نفي اي طابع حكومي له، حيث تم اعلان انه ليس حكوميا ولكنه تنظيم يضم الحاكمين والشعب ويتيح الفرصة الحقيقية لتعاونهم علي علاج جميع المشاكل المحلية والقضايا العامة في ظل المجتمع الاشتراكي الديمقراطي التعاوني.
وأنه السبيل الي الديمقراطية السليمة التي تشعر الشعب بأنه يحكم نفسه بنفسه، ويعمل علي تخطيط السياسة العامة للبلاد، وستقوم الحكومة بتنفيذ هذا التخطيط.
ولكن هذا الطابع للتنظيم الواحد طرأ عليه تغير عقب صدمة انهيار الوحدة المصرية السورية في سبتمبر عام 1961، ومن هنا جاء الميثاق الوطني الذي صدر في مايو عام 1962 يحدد اسس تطور المجتمع وقواه الأساسية، أو ما اطلق عليه قوي الشعب العاملة (الفلاحون والعمال والجنود والمثقفون والرأسمالية الوطنية)، في مواجهة القوي الرجعية التي تم اعتبارها صراحة من أعداء الشعب.
وفي هذا السياق، تحدث الميثاق الوطني عن أن (الوحدة الوطنية التي يتضمنها تحالف قوي الشعب العاملة هي التي تستطيع أن تقيم الاتحاد الاشتراكي العربي ليكون السلطة الممثلة للشعب والدافعة لإمكانيات الثورة والحارسة علي قيم الديمقراطية السليمة).
وصدر قانون الاتحاد الاشتراكي العربي في 8 ديسمبر عام 1962 ليحدد طبيعة هذا الاتحاد باعتباره (الطليعة الاشتراكية التي تقود الجماهير وتعبر عن ارادتها وتوجه العمل الوطني وتقوم بالرقابة الفعالة علي سيره في خطه السليم في ظل مبادئ الميثاق) وأنه (الوعاء الذي تلتقي فيه مطالب الجماهير واحتياجاتها) حيث يشكل هذا الاتحاد (الاطار السياسي للعمل الوطني وتتسع تنظيماته لجميع قوي الشعب من فلاحين وعمال وجنود ومثقفين ورأسمالية وطنية على أساس الالتزام بالعمل الوطني في ترابط وثيق بين المستويات المختلفة من قاعدة التنظيم الي قيادته الجماعية).
وظل الاتحاد الاشتراكي العربي هو التنظيم السياسي الوحيد في مصر حتي أسفر الحوار، الذي تم تنظيمه عام في عهد الرئيس السادات 1974 حول مستقبل هذا التنظيم عن فتح الباب أمام التعدد الحزبي وظهور المنابر السياسية، وفي خطاب ألقاه السادات في 28 مارس عام 1976 قرر تسمية هذه المنابر بالتنظيمات وحدد أسماءها وأسماء زعمائها فإختار رئيس الوزراء ممدوح سالم مقررا لمنبر مصر العربي الاشتراكي (الوسط) ومصطفي كامل مراد مقررا لمنبر الأحرار الاشتراكيين (اليمين) وخالد محيى الدين لمنبر التجمع الوطني التقدمي الوحدوي (اليسار) لتبدا مرحلة جديدة فى عمر الوطن.
ولا ننسى ان جمال عبدالناصر فكر فى تنظيم سرى سمى بالتنظيم الطليعى كان تحت عينه شخصيا واشراف على صبرى وشعراوى جمعة، وكان يهدف منه ايجاد قوة منظمة تنقل له نبض الراى العام فى كل ربوع مصر، وان يبعد به عن تنقضات السياسة وان يتم صقلهم وتدريبهم سياسيا بعد اختيار افراده بدقة كبيرة، وان يشملهم التنوع فى الاختصاصات.
ولكن للتاريخ رأى البعض كيف لسلطة حاكمة إنشاء تنظيم سرى؟ وما الغرض منه ان كنا دولة مؤسسات؟
هل لمواجهة مجموعة المشير الذي استقل بالجيش تماما ولم يستطع ناصر التدخل فيما يحدث فيه، أم لكتابة التقارير كما رأى البعض، أو أنهم حقا والثابت كانوا ذو صقل سياسي واستطاعوا قيادة المرحلة اللاحقة فمنهم فؤاد محى الدين وعبدالعزيز حجازى وكانوا رؤساء للحكومة فى فترات لاحقة وحسين كامل بهاء الدين وزير التعليم السابق فى عهد مبارك، كما كان يرأس منظمة الشباب فى عهد ناصر وغيرهم من الشخصيات المهمة فى الوطن.
كان ذلك سرد للتجربة الحزبية في عهد الرئيس جمال عبدالناصر بشكل مختصر، حيث تغيب الديمقراطية تقطن التجاوزات.
إلى أن نلتقي في الجزء الخامس..