لست وحدك يا باجيو.. هدف بكأس العالم تسبب في سجن حارس البرازيل 50 عامًا
تحمل كرة القدم دائما جانبا مظلما وخفيا مختبأ وراء الاحتفالات والهتافات والجوانب الفنية والألقاب والأهداف، جانب قد لا ينتبه له الجماهير وقد لا يعيروه اهتمامهم بالرغم من أنهم قد يكونون السبب فيه، وقد يكون السبب فيه أيضا مجرد هدف في مباراة.
كأس العالم وباجيو الذي مات واقفا
ويحمل كأس العالم العرس الكروي الأكبر في اللعبة، النصيب الأكبر في هذا الجانب المظلم، فقد تسبب هذا الحدث الكروي الذي يأتي كل أربعة أعوام منذ عام 1930 عندما أقيمت النسخة الأولى منه، في إنهاء مسيرة أكثر من لاعب بسبب هدف فقط في مباراة، وتسبب في بكاء شعوب وانتصار آخرين، وواحدة من أشهر هذه القصة الحزينة قصة باجيو.
بالطبع الجميع يعلم قصة روبيرتو باجيو أسطورة إيطاليا السابق، والذي تسببت إضاعته لركلة جزاء في نهائي كأس العالم 1994 ضد البرازيل، فعندما وصلت المباراة إلى ركلات الترجيح اختير لتسجيل الركلة الأخيرة وأضاعها بعدما سددها بقوة لتعانق السماء، ليعم الصمت كل أرجاء ملعب باسادينا في كاليفورنيا، ويهدي السامبا لقب المونديال بعدما غاب عن التتويج باللقب 24 عاما، وتسببت هذه الركلة في موجة هجوم شديدة تعرض لها باجيو، ووصل الأمر إلى كتابة الجماهير عبارة “سيغفر الرب للجميع إلا باجيو” على جدران الفاتيكان في روما، وقالت الصحافة عنه “مات باجيو واقفا”.
عودة المونديال وحلم البرازيل باللقب الأول
وقبل قصة باجيو بـ 44 عاما، حدث أمر مشابه للاعب آخر دخل الجانب المظلم من اللعبة، وكانت العوامل المشتركة بين هذا اللاعب وبين أسطورة إيطاليا هو كأس العالم ومنتخب البرازيل ومباراة الدور النهائي، ولكن مع اختلاف الأزمان والأشخاص.
القصة هذه المرة عن مواسير باربوسا حارس مرمى منتخب البرازيل، وواحد من أفضل حراس المرمى في العالم في فترة الأربعينيات، وله العديد من التصديات التي لا يمكن أن ينساها من تابعه في هذه الفترة، وحصد العديد من الألقاب مع السامبا مثل كوبا أمريكا وغيرها من الألقاب مع فاسكو دي جاما وكان الحارس الأشهر في بلاده، وبكن انقلبت الأمور تماما معه بسبب مباراة نهائي مونديال 1950.
أقيم كأس العالم 1950 في دولة البرازيل بعدما توقفت البطولة لـ 8 أعوام متتالية بسبب الحرب العالمية الثانية، ولم يشارك فيها سوى 13 منتخبا، وكان نظام البطولة مختلفا قليلا في هذه النسخة بعدما تم تغييراسمها إلى “بطولة العالم الرسمية لكرة القدم” بدلا من “جائزة جول ريميه”، وألغي نظام خروج المغلوب وتم الأخذ بنظام المجموعات حيث تقسم الفرق المتأهلة إلى المونديال إلى 4 مجموعات وكل مجموعة تلعب كدوري من دور واحد، ثم تصعد 4 فرق إلى دور الأربعة وأكثر الفرق حصدا للنقاط تفوز باللقب.
وبدأت البرازيل البطولة بشكل قوي بعدما فازت على المكسيك برباعية ثم تعادلت مع المكسيك بهدفين لكل فريق، واختتم مبارياته بالفوز على يوغوسلافيا بهدفين، ليتأهل إلى المرحلة النهائية، واستهل منتخب السامبا الدور النهائي بفوز على السويد بـ 7-1، ثم فاز على إسبانيا 6-1، وتبقى له مباراة أخيرة ضد أوروجواي، تحسم الفائز باللقب.
ولم يكن أحد يعلم أن يوم نهائي مونديال 1950، سيكون نهاية باربوسا هو الآخر، بالرغم من أن الجميع في البرازيل كان متأكدا من فوز المنتخب باللقب بعد نتائجه هذه، بل وصل الأمر إلى نشر صحيفة “جازيتا اسبورتيفا” البرازيلية في عددها بعنوان رئيسي “غدا سنهزم أوروجواي”، بل وأعلن عمدة ريو دي جانيرو البرازيل بطلة للعالم قبل انطلاق المباراة.
باربوسا والسجن 50 عاما
وأقيم اللقاء يوم 19 يوليو 1950 وسط حضور 200 ألف متفرج على ملعب ماراكانا، والجماهير متحفزة بشكل كبير جدا للمباراة وجاهزة للاحتفال باللقب، وبالفعل أحرز منتخب البرازيل الهدف الأول في الدقيقة 47 عن طريق فرياكا، ولكنهم استقبلوا هدف التعادل من أوروجواي في الدقيقة 66 عن طريق شيافينو، وكان التعادل يكفي السامبا لحصد اللقب، وظلت الجماهير تهتف وتحفز لاعبيها فقد أصبحوا على بُعد خطوة واحدة عن حصد مونديالها الأول.
وبشكل مفاجئ وعكس كل التوقعات سجل أوروجواي هدفه الثاني في الدقيقة 79 عن طريق تسديدة قوية سددها جيجا من الزاوية اليمنى مستغلا تقدم باربوسا، ولكنه قفز سريعا للوراء ولمس الكرة وسقط أرضا ولكن وهو ينهض نظر خلفه ليجدها تسكن شباكه والصمت يعم أرجاء الملعب بالكامل، وانتهى اللقاء وضاع حلم البرازيل وحصد أوروجواي لقب كأس العالم الثاني له، وظلت الجماهير البرازيلية تبكي حتى اليوم التالي.
ولكن هذا الخطأ المتسبب في إضاعة لقب كأس العالم من البرازيل، قلب حياة باربوسا بالكامل رأسا على عقب، فقد غضبت الجماهير منه وأصبح منبوذا وتحمل خسارة اللقب بشكل كامل، بل وخرج صاحب الـ29 عاما من قائمة منتخب البرازيل بشكل نهائي ولم يعد إليها مرة أخرى إلا في مباراة وحيده ضد الإكوادور في 1953، بل ألمحت الصحافة إلى أنه حدث تصرف عنصري في ذلك الوقت ولم يحرس أي حارس أسمر الوجه مرمى منتخب السامبا نهائيا لمدة 56 عاما حتى حرس ديدا مرماهم في مونديال 2006.
وظل باربوسا يعيش وسط الناس بائسا بسبب هجوم الشعب البرازيلي المستمر له، بل كان يسير في الشارع متخفيا خوفا من أن يراه أحدا وينهال عليه بالسباب، وتعثرت مسيرته الكروية بأكلمها ورحل عن ناديه وانضم إلى فريق كامبو جراندي وظل في الملاعب حتى وصل إلى 41 عاما، وتعرض إلى إصابة قوية أنهت مسيرته ليستمر تعيسا، ولم يتمكن من الحصول على أي عمل في مجال كرة القدم نهائيا بعد إعتزاله، وعمل في النهاية كمدرب سباحة في ملعب ماركانا، ليأتي كل يوم إلى المكان الذي قضى عليه وعلى أحلامه نهائيا.
بل وتم منعه من زيارات معسكرات المنتخب في أي مناسبات خوفا من أن يحل نحسه على الفريق، وكانت المفاجأة أنه عندما حاول الاندماج مع اللعبة مرة أخرى وذهب لمعسكر البرازيل في 1993 قبل خوض منافسات كأس العالم 1994، تم منعه من الدخول بأوامر من ماريو زاجالو مدرب المنتخب خوفا من يصيب نحسه الفريق.
وعندما ضاق الحال بحارس البرازيل بسبب كل ما يتعرض له خرج بتصريح مؤثر قاله باكيا وظل محفورا في ذاكرة الجميع حيث قال “أقصى الأحكام الجنائية في البرازيل هي السجن لمدة 30 عاما ولكني قضيت 50 عاما أدفع ثمن جريمة لم أرتكبها، حتى الجاني عندما يقضي عقوبته يتم مسامحته أما أنا فلم تتم مسامحتي أبدا”.
وحصل باربوسا بعد عدة أعوام على هدية عبارة عن أجزاء من مرمى ملعب ماركانا عندما كان هناك بعض الإصلاحات فيه، وظهر أنه بالرغم من مرور السنوات لم ينسى حزنه على الواقعة ليقم في اليوم التالي بإقامة حفل شواء لأصدقائه وتفاجأ الجميع أنه استخدم الأخشاب التي حصل عليها من المرمى في الشوي وقال لأصدقائه “لقد كانت أفضل قطعة لحم مشوية تناولتها".
وظلت التعاسة تطالب باربوسا منذ هذه الواقعة الحزينة، فقد توفت زوجته في 1994 مصابة بالسرطان ولم يكن لديه أي أبناء منها، ليعش باقي حياته وحيدا ولم يهتم أحدا لأمره، حتى توفي في 7 أبريل 2000 عن عمر يناهز الـ79 عاما وبعد 11 يوما فقط من احتفاله بعيد مولده.
نهاية باربوسا واستمرار الجانب المظلم
وتوفي باربوسا ودُفنت معه قصته، وأيضا اختفى باجيو منذ اعتزاله ولم يعلم أحد عنه شيئا حتى هو شخصيا قرر الابتعاد عن اللعبة نهائيا والعمل في مجال آخر، ولكن لا يزال الجانب المظلم الحزين المختبئ في كأس العالم واللعبة بشكل عام متواجد معنا، يبحث عن ضحيته المقبلة.