التنحي وانتحار المشير عامر
في المقال السابق استعرضنا أسباب الهزيمة في حرب يونيو 67، ويوم 9 يونيو خرج عبد الناصر فى بيان يتنحى فيه عن السلطة تماما ونهائيا، وقد كتب هذا الخطاب هيكل الذي يذكر في كتابه الانفجار أنه من أصعب الخطابات التي سطرها، وكان الاتفاق أن يكون شمس بدران رئيسًا للجمهورية مؤقتا لحين الاستفتاء، وعدل الاختيار بناء على نصيحة من هيكل حيث كان شمس يشغل منصب وزير الحربية، ومن شلة عامر المسؤولة في المقام الأول عن تلك النكسة، ووقع الاختيار على زكريا محي الدين رجل تثق فيه الولايات المتحدة الأمريكية، وأقدم رفقاء مجلس قيادة الثورة، وبين انكسار عبد الناصر الشديد، واللوم الذي يكتسيه جراء الهزيمة، لكنه أصر أن يخرج إلى الشعب والأمة العربية وأن يعلن على تحمله الهزيمة والمسؤولية بشكل كامل، وبمجرد إذاعة البيان خرجت الجماهير تطالب الرئيس المهزوم بعدم التنحي، وظن البعض أن تلك المظاهرات كانت مفتعلة من جانب الاتحاد الاشتراكي، والتنظيم الطليعي، ومنظمة الشباب، والنقابات، لكي يعود عبد الناصر.
والبعض رأى أن تلك المظاهرات عفوية تلقائية، وشكل البيان فور إذاعته صدمة للشعوب العربية أيضا في كل الوطن العربي، ورأى آخرون بعد البيان أن الهزيمة اليوم لم تعد عسكرية فقط بل أصبحت الهزيمة عسكرية وسياسية.
والبعض الآخر كان وقْع الهزيمة عليه قاسيا، وفقَد الثقة في كل شيء، وانتشرت النكات والقفشات بين المصريين تعبيرا عن ضجرهم، لدرجة أن عبد الناصر في إحدى خطبه طلب من المصريين كفاية بقى نكت لأنها تؤثر على الجنود.
والغريب أن مجلس الأمة الذي يجب أن يحاسب كل مسئول عن تلك النكبة، رحّب هو الآخر بعودة عبد الناصر، وتداولت الصحف صورة أحد الأعضاء المبتهجين رقصا بعدم تنحي الرئيس، حتى قال أحد المسؤولين الإسرائيليين تعليقا على هذا المشهد: منتصرون يبكون، ومنهزمون يرقصون.
وبدا عبد الناصر شخصا مختلفا لا يشغله سوى عودة الأرض والثأر، وتصحيح الأوضاع داخل القوات المسلحة، فقد كانت الهزيمة له طوق نجاة ليتخلص من كل قيوده، ويحطم كل أغلاله التي فرضها عليه صديق عمره عبد الحكيم عامر، وأصبح له أنياب ينهش بها كل رجال المشير.
فبعد النكسة أصدر عبد الناصر قرارًا بتنحية عامر من منصبة وتعيينه نائبا لرئيس الجمهورية، وهذا ما رفضه عامر وانسحب الى أسطال مسقط رأسة، وسرعان ما عاد الى القاهرة والعلاقة متوترة بينه وبين عبد الناصر، واجتمع مناصرو عامر معه في منزله بالجيزة، وكان عبد الناصر سيتجه إلى مؤتمر الخرطوم، وكان يريد قبل السفر أن يضع حدا لتصرفات عامر، وهواجسه تقول إنه من الممكن أن يتم الانقلاب عليه عند سفره، فاستعان عبد الناصر بمحمود الجيار ليتم دعوة عامر إلى منشية البكري، ورغم تحذير الضباط المنحازين له في عدم الذهاب إلا أنه ذهب إلى عبد الناصر، وفور وصوله تم القبض على مرافقيه، وتجريد عامر من سلاحه فور وصوله، ووجد هناك بعضا من رفقائه من مجلس قيادة الثورة (السادات وعبد اللطيف بغدادي وحسين الشافعي)، وبدؤوا في عتابه، بل في محاكمته محاكمة أخوية فيما بينهم، ولكن المشير بدا عصبي المزاح، حادّ الطباع، ولكنهم بدؤوا في مواجهته، بمسؤوليته عن تلك النكسة، وبما يحدث فى منزله بالجيزة، وأن منزله أصبح بؤرة مسلحة، وأنه ينوي الانقلاب، وهذا ما أكده جلال هريدي عند التحقيق معه بعد القبض عليه، أن عامر كان يريد الانقلاب على عبد الناصر، والتهب الموقف وصرخ عامر عندما دخل إلى الحمام، وهو مناديا على أمين هويدي يطلب منه أن يبلغ عبد الناصر بأنه انتحر، حسب شهادة هويدي نفسه، وتم نقله إلى المستشفى للحصول على الإسعافات، وتم نقله إلى مكان تحديد إقامته، في الوقت ذاته كان الفريق محمد فوزي يقبض على كل رجال عامر المجتمعين في منزله بالجيزة، ويجمع كل الأسلحة والذخيرة التي كانت في بيت عامر.
وظل عامر في بيت المريوطية تحت الإقامة الجبرية حتى يوم وفاته أو انتحاره أو قتله حسب رؤية كل فريق بدوافعه، وحتى اليوم هناك من يقول إن المشير انتحر، والبعض الآخر يشكك في واقعة انتحاره، وخصوصا أنه عندما تم تحديد إقامته طلب بعض الكتب وأدويته، وإن كان يريد الانتحار كان الأولى أن ينتحر بعد الهزيمة مباشرة.
في النهاية بقي موت عامر لغزًا حتى الآن، برغم أن القضية أغلقت بعد انتهاء التحقيقات بأنه مات منتحرًا بالسم في عصير الجوافة الذي شربه، وطويت صفحة عامر وكل من كان في صفه من الضباط بعد محاكمتهم.
استطاع عبد الناصر أن يسترد ما سلب منه بعد موت عامر، وكما قال محمود جامع في مذكراته أن عبد الناصر قال: إن البلد لن تتحملنا نحن الاثنين.
وبدأت محاكمات رجال المشير، وشكلت لهم محكمة الثورة، وحكم عليهم جميعا بتهمة التآمر وقلب نظام الحكم.
وحكم على اللواء صدقي محمود قائد الطيران بوصفة كبشًا للفداء للهزيمة، وأفرج عنه السادات بعد نصر أكتوبر.
كما حكم على صلاح نصر بقضية فساد المخابرات، كذلك محاكمة عباس رضوان، وشمس بدران، وكل حلفاء المشير وبدأت مرحلة جديدة من تطهير وتطوير القوات المسلحة.
ولكن خرج طلبة الجامعة في مظاهرات تهتف ضد أحكام محكمة الثورة وتهتف: لا صدقى ولا الغول (قائد الفرقة الرابعه مدرعة) عبد الناصر هو المسؤول، البلد دي بلدنا واللي ماتوا دول إخواتنا.
وبدأت عملية التطهير والتطوير في القوات المسلحة، بتولي أمين هويدي رئاسة المخابرات، ومحمد فوزي قائدًا للقوات المسلحة، وعبد المنعم رياض رئيسًا لأركان حرب القوات المسلحة، وأحمد إسماعيل قائدًا للجبهة، ومدكور أبو العز قائدًا للقوات الجوية، وسعد الدين الشاذلي قائدًا لقوات المظلات والصاعقة، وبدأ الاستعداد للتدريب والجهد والعرق في سبيل إعادة الأرض والوصول بالقوات المسلحة إلى الجاهزية القصوى لإزالة آثار العدوان.
وإلى المقال القادم وبداية حرب الاستنزاف.