مصر دولة مش مشروع
عملية إدارة دولة صغيرة كانت أم كبيرة من الناحية الاقتصادية، تختلف تماما عن إدارة مشروع مهما عظم حجمه، وهذا أمر يتفق تماما مع المفهوم المتعارف عليه لـ علم الاقتصاد وهو العلم المعني بالاستخدام الأمثل للموارد المتاحة والمفترض فيها المحدودية بهدف تحقيق أكبر قدر ممكن من الحاجات غير المحدودة للبشر.
ولعل اختصار مفهوم "الاستخدام الأمثل" يُعني بالضرورة الإدارة السليمة والكفؤة للموارد؛ أي أن علم الاقتصاد يمكن اختصاره بالقدرة الحقيقية على حسن إدارة الموارد الاقتصادية، وما يعنيه ذلك من ترشيد النفقات وحسن تخصيص الموارد، وما ينتج عنه من إنتاجية عالية وجودة مرتفعة للمنتج.
وباستخدام اللغة السائدة، فإن علم الاقتصاد يُعنى في النهاية باستخدام الموارد المتاحة لإنتاج السلع والخدمات بتنافسية عالية بدون هدر أو إسراف.
بينما إدارة المشاريع هو تخصّص يتعلّق بتنظيم وإدارة الموارد، بالطريقة التي تمكّن إنجاز المشروع باحترام مضمونه المحدد وبمراعاة عوامل الجودة والتوقيت والتكلفة، أي أن المشروع هو عملية أو نشاط مقيد بزمن، وله تاريخ بداية ونهاية، ويتم القيام به مرة واحدة.
وهناك اختلاف ما بين كون المشروع أمرًا مؤقتًا لمرة واحدة، وبين العمليات الإدارية أو الاقتصادية التي تجري بشكل دائم أو شبه دائم من أجلِ استدامة تقديم المنتج أو الخدمة، كما أن إدارة المشاريع لا تتطلب بالضرورة نفس الخصائص التي تتطلبها إدارة العمليات الإدارية والاقتصادية الدائمة، سواء من الناحية الفنية المطلوبة أو فلسفة العمل ذاته.
مناسبة هذا الحديث، هناك حديث لا يهدأ حول مفهوم وجدوى الإنفاق العام، ودوره في الأزمة الاقتصادية وتزايد الدين العام للدولة ولا يخلو هذا الحديث تبرير مضمونه أن كل إنفاق تم أو يتم في مصر يستهدف رفع جودة الحياة للمواطن ولا شك أن ذلك هدف نبيل ومحمود.
ومداخلتي هنا بشكل مبسط هي أن وضعنا أشبه برب أسرة بسيط الحال أدخل أولاده أفضل مدارس وحرص على توفير مسكن ملائم، كما اشترى أثاث جديد وسيارة موديل حديث.. فهذا بالطبع أمر جيد للغاية إن نظرنا إليه بشكل مرحلي، لكن الإشكالية هي عدم الاعتبار إلى تراكم الأقساط بالشكل الذي يجبر رب الأسرة الآن على التفكير في بيع كل ذلك حتى يسدد أقساط ديونه لأنه لم يبحث عن تعظيم دخله قبل تعظيم إنفاقه.
قد يرد البعض بأن جزء من المشروعات التي قامت بها الدولة خلال الفترة الماضية لا تمثل رفاهية للمواطن وكانت هناك حاجة ماسة إليها من البعد الاجتماعي، ولكن هذا لا يعفي من أنه كانت هناك ضرورة لوجود رؤية مستقبلية لسداد أقساط ديون هذه المشروعات أو تعظيم موارد الدولة لمساندة عملية التنمية رغم كل هذا الوقت.
فقد تمحور الخطاب الحكومي والاقتصادي المصري خلال العقد الماضي حول أن مصر محتاجة كذا تريليون دولار، وعليه تم اللجوء بشكل مبالغ فيه إلى الديون الخارجية إلى أن أصبح لدينا مشاريع كثيرة غير مدرة للعائد، ناهيك عن أصول لا يريد أحد شرائها الآن.
وأصبح وضعنا الآن مرتبك.. لا توجد عملة صعبة كافية ولا توجد موارد تم تنميتها بالقدر الكافي وعلينا أقساط ديون واستحقاقات دولارية غير قادرين على سدادها ومعدل تضخم مرتفع للغاية يئن منه الغني قبل الفقير.
وهنا تأتي تساؤلات عدة.. هل الفكرة من إدارة عملية اقتصادية هي صرف الأموال؟ هل مصر عبارة عن مشروع لا ينتهي؟ هل إنفاق الميزانيات حتى في أعظم وأنبل الأشياء، هي مقياس نجاح الدول؟ لماذا الخطاب السائد دائما عن الحاجة لموارد وليس لكيفية خلق الموارد؟
والرد على كل ذلك يعيدنا إلى ذات الفكرة التي بدأت بها المقال، وهي أن هناك فارقا كبيرا بين إدارة مشروع بجدول زمني وميزانية ومحددات وبين إدارة اقتصادية لدولة تنطلق من الأساس من مبدأ محدودية الموارد وتوازن بين الدخل والإنفاق.
ختاما.. فمصر ليست مشروعا!، ولن تفلح أي محاولات للتعامل معها على هذا الأساس. كما أن المضي في الإنشاءات دون رؤية وهوية معلومة ومشروع اقتصادي حقيقي يهدف لتعظيم للموارد لن تكون عاقبته مرضية على الإطلاق، ولنا في وضعنا الحالي عبرة.