حقوق الإنسان بين مطرقة الغرب وسندان الشرق
كما هو معلوم حقوق الإنسان كمفهوم فلسفي حديث تعود جذوره المباشرة لمنتصف القرن العشرين بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وتبلورت مفاهيم حقوق الإنسان المعاصرة في إطار تشكيل معالم النظام الدولي القائم الذي تسيده الغرب جزئيا خلال أغلب النصف الثاني من القرن العشرين، وساده بالكامل مع انتهاء الحرب الباردة بانهيار الكتلة الشيوعية وانفراد الولايات المتحدة بقيادته.
خلال الفترة التي سبقت انتهاء الحرب الباردة انصب اهتمام الدول الغربية على الحقوق المدنية والسياسية بينما اهتم الشرق الشيوعي بقيادة روسيا السوفيتية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وتمخض ذلك عن صدور العهدين الدوليين، أحدهم حول الحقوق المدنية والسياسية والآخر عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وعبر ذلك عن اهتمام كل طرف بجانب معين من مفهوم حقوق الإنسان وفقا لأولياته ورؤيته السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي بالطبع كانت متأثرة للغاية بالأولويات الوطنية للدول الأعضاء بكل كتلة علي حدي وفقا لتكوين نظمها السياسية ونخبها الحاكمة ونموذجها الاقتصادي، فالغرب الليبرالي الرأس مالي اهتمامه ينصب على الحقوق الفردانية والحريات العامة وحقوق الملكية، بينما انحازت الكتلة الشرقية الشيوعية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية المعنية بالعدالة الاجتماعية والسكن والصحة والمأكل والمشرب. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية ظل الاهتمام الغربي يميل الي الحقوق المدنية والسياسية بشكل غير متزن والي حدِ ما أهمل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أو على الأقل لم يعطها نفس القدر من الاهتمام عند تناولها على المستوى الدولي.
والآن في ظل ما يشهده العالم من استقطاب حاد، أحد تجلياته كانت قمة البريكس الأخيرة هذا التكتل الصاعد المنافس لمجموعة السبعة الكبار G7، والذي شهد لثاني مرة منذ نشأته توسيع عضويته لينضم لروسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، كل من مصر والسعودية والإمارات والأرجنتين وإيران واثيوبيا. توسع هذا التكتل ومخرجات قمته الأخيرة المتعلقة بالتجارة بالعملات المحلية والتنمية، بالإضافة لامتلاكه أدوات تمويلية تابعة له مثل بنك التنمية الجديد يفصح بوضوح عن توجه لديه لوضع حجر أساس منظومة دولية موازية لمنظومة الأمم المتحدة ومجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الخاضعة للنفوذ الغربي، ليترسخ مفهوم التعددية القطبية، وينتهي نظام القطب الواحد الذي يتراجع تحت وطأة الكثير من الأزمات والتحديات على رأسها الحرب الأوكرانية. وبالتأكيد هذا النظام المتعدد الأقطاب سيكون لحقوق الإنسان فيه مكان، أي أن الدول التي تقود البريكس لديها رؤى متنوعة حيال قضايا حقوق الإنسان، وبالتأكيد هي مختلفة أيضا عن الرؤية الغربية لحقوق الإنسان.
ما يثير اهتمامي هنا ليس التباين الواقع بين دول البريكس في المجال الحقوقي، وبالتأكيد التفكير في ما إن كان التكتل سيكون له رؤية موحدة لتناول هذا الملف هو أمر جدير بالدراسة، وقد يكون لنا فيه حديث في مقال آخر، ولكن ما يشد انتباهي هو نظرة أقوى مكونات التكتل وأكثرها نفوذًا بحكم حجم الاقتصاد والتجارة والاستثمار لحقوق الإنسان والحديث يدور هنا بالطبع عن الصين الشعبية. نموذج الحكم الصيني بعيد كل البعد عن الديمقراطية بمقاييسها الغربية، وكلنا ملمون بعدم حرص الصين على تعزيز الحقوق السياسية والحريات العامة بحكم تكوين نظام الحكم وطبيعة المجتمع، ولكن هذا لا يعني أن حقوق الإنسان غائبة عن الذهن الصيني، حيث إن هذه القوة الصاعدة تنظر إليها من منطلق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية كأولوية أولى إن لم تكن الوحيدة، وخطابها الحقوقي في المحافل الدولية مثل مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة مهتم دائما بقضايا التنمية وصلتها بحقوق الإنسان، وأطلقت الصين عددا من خطط العمل الوطنية الخمسية لتعزيز حقوق الإنسان في مجتمعها، الأولى في عام 2009 والرابعة والأخيرة انطلقت في 2021 والتي من المفترض أن تنتهي مدتها الزمنية في عام 2025، وتعطي هذه الخطط بشكل عام الأولوية بوضوح لا لبس فيه للحقوق الاقتصادية والاجتماعية باعتبارها الجوهر الحقيقي بحقوق الإنسان وغايتها من المنظور الصيني.
إذا قرر تكتل البريكس أن يكون له رؤية ذات صلة بقضايا حقوق الإنسان من غير المستبعد أن تضغط الصين في اتجاه إعطاء الأولوية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وغالبية دول التكتل سواء الأصلية أو المستجدة لن تمانع في السير في هذا الاتجاه إن وجد.
بما لا شك فيه سيضع ذلك الخبراء العالميين في مجال حقوق الإنسان في مأزق حقيقي، حيث سنعود من جديد للمعادلة الثنائية التي تعبر عن توجهات أقطاب العالم شرقًا وغربًا وجنوبًا، حيث سيدفع معسكر في اتجاه إعطاء الأولوية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بينما سيهتم الآخر بالحقوق المدنية والسياسية على حساب الأخرى. وإن عدنا لشرعة حقوق الإنسان الدولية التي تحكم الجميع ولو نظريًا سنجد أنها تنص بوضوح على تكامل حقوق الإنسان بكافة أفرعها وتؤكد على عدم جواز الفصل بينها أو تفضيلها على بعضها البعض، وهذا هو التوجه السليم حيث إن التنمية لا تتحقق بشكل كامل دون احترام الحريات العامة والحقوق السياسية، والحكم الديمقراطي الرشيد والحريات السياسية والمدنية لا قيمة لها بدون رخاء اقتصادي يحفظ التماسك الاجتماعي يكون قوامه العدالة الاجتماعية وحماية الفئات المستضعفة من مخاطر الفقر والجوع.
أنا مطمئن لموقف مصر في هذه المعادلة التي إن وقعت ستجلب المزيد من المعاناة للعالم، حيث إن الدولة المصرية عبرت عن موقفها بوضوح في الدستور والاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، حيث إن هذه الوثائق الهامة تنص بشكل ضمني على عدم جواز الفصل بين حقوق الإنسان المختلفة وضرورة وجود حالة التكامل فيما بينها، إلا أن تحقيق ذلك بشكل كامل يتطلب المزيد من الجهود والتدابير على المستوى الوطني، وأرى أننا نسير في الطريق الصحيح رغم التحديات التي لا يمكن إنكارها سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي.
خلاصة القول ملف حقوق الإنسان على مفترق طرق في ظل حالة الاستقطاب الشديد الذي يشهدها العالم بسبب التوتر المتصاعد بين القوي الكبرى، فإما أن يتجنب الجميع الخلافات ويتوافقوا على مفهوم موحد لحقوق الإنسان يرتكز إلى المواثيق الدولية التي شارك في صناعتها أغلب عناصر المجتمع الدولي وهذا مع الأسف غير مرجح، وإما أن يسير العالم في مسار مؤسف يوظف ملف حقوق الإنسان في صراع القوى الكبرى القائم، وبالفعل يتبنى المعسكر الغرب هذا النهج منذ زمن، وقد تلجأ الأقطاب الجديدة المنافسة له لنفس الأسلوب، وحينها ستفقد حقوق الإنسان بمفهومها الشامل معناها، وتجنح عن مسارها وتضيع غايتها وتتحول إلى سلاح يستخدمه المتصارعون على النفوذ والهيمنة، مما سيفضي بدوره إلى نتائج تعرض حقوق الإنسان وحريته وكرامته ورخاءه لخطر التفريط والإهمال والتجاهل وبالتالي يصبح العالم أكثر قبحًا وأقل أمانًا لكافة قاطنيه.