الجمعة 22 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

أزمة الأرمن في القوقاز.. عندما تتخلى روسيا عن حليفها

الأربعاء 20/سبتمبر/2023 - 03:47 م

تعيد أذربيجان إشعال القوقاز وتشن عملية عسكرية واسعة النطاق ضد الدويلة الأرمينية “جمهورية ارتساخ” في إقليم ناجورنو كاراباخ، وتعتبر أذربيجان هذا الإقليم ذا الأغلبية العرقية الأرمينية جزءا من أراضيها المعترف بها دوليا، بينما تدعم أرمينيا انفصاله سياسيا واقتصاديا وعسكريا عن دولة أذربيجان، دون أن تعترف رسميا بدويلة أرتساخ. 


القتال الدائر في القوقاز يأتي كحلقة من حلقات صراع طويل بين باكو ويريفان، يعود إلى نهاية الثمانينات ومطلع التسعينيات من القرن الماضي.

 
ولفهم ما يدور في هذا الجزء من العالم، من الضروري أن يتم توضيح الخلفية التاريخية لما يدور من أحداث. 

أرمينيا وأذربيجان كانتا جزءا من الاتحاد السوفيتي قبل استقلالهما بعد انهياره، وفي أثناء الحقبة السوفيتية كانت موسكو تعيد رسم الحدود بين الجمهوريات السوفيتية المختلفة، لتفتت الكتل العرقية وتبدد أي مساع قومية انفصالية تهدد تماسك ووحدة الدولة السوفيتية، التي كانت في واقع الأمر مشروعا إمبرياليا روسيا مقنعا، وأدى هذا التفتيت إلى نشوب أزمات في عدد من دول الاتحاد السوفيتي السابق، لعدة عوامل من بينها عدم التجانس القومي وأزمة ناجورنو كاراباخ مثال حي لهذه الصراعات المزمنة، حيث إن الإقليم يقع داخل حدود أذربيجان المعترف بها دوليا، ولكن أغلب سكانه من الأرمن الرافضين لسلطة الدولة الأذربيجانية صاحبة الثقافة التركية يرغبون في الانضمام للدولة الأرمينية، وجدير بالذكر أن شعوب الأرمن والترك يفرقهم عداء تاريخي تعود جذوره لإبادة شعوب الأرمن من قبل الأتراك العثمانيين في القرن التاسع عشر وخلال الحرب العالمية الأولى.

 

في عام 1992، اندلعت حرب مباشرة بين أذربيجان وأرمينيا انتهت بانتصار الأخيرة التي فرضت سيطرتها علي إقليم ناجورنو كاراباخ، وفضلت أرمينيا ألا تضم الإقليم لأراضيها فأقامت فيه كبديل دويلة أرمينية تدعى "جمهورية أرتساخ". لا تتمتع هذه الدويلة باعتراف دولي يذكر، بل أرمينيا نفسها لم تعترف بها حتى الآن وألزمت نفسها على مدار ثلاثة عقود بدعمها والدفاع عنها.

 

في عام 2020، وبعد مرور عقود من الهدوء النسبي وفي خضم انشغال العالم بجائحة كوفيد 19 اندلعت حرب ناجورنو كاراباخ الثانية، ولكن أذربيجان هذه المرة بفضل الدعم التركي والتجاهل الغربي، وعدم الممانعة الروسية حققت انتصارا كبيرا، ونجحت في استعادة السيطرة علي جزء كبير من الإقليم المتنازع عليه.

الموقف الروسي في هذه الأزمة له خلفيات هامة ذات صلة مباشرة بالقتال الدائر الآن، فالحكومة الأرمينية الحالية بقيادة نيكول باشينيان منذ وصولها للسلطة في 2018 تسعى للتقارب مع الغرب والابتعاد عن روسيا، الحليف التاريخي لدولة أرمينيا المعاصرة والشعوب الأرمنية علي مدار قرون، وأدى هذا بطبيعة الحال لتوتر علاقتها بموسكو. 

الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف أدرك هذا الأمر، واستغل انشغال العالم بالجائحة وتوتر علاقة موسكو بيريفان وأشعل جبهة القتال التي ظلت خاملة لعقود من جديد في خريف عام 2020، وانتهت حرب ناجورنو كاراباخ الثانية بانتصار واضح لأذربيجان لعدة عوامل، أهمها الدعم التركي العسكري المباشر بالسلاح والعتاد، والمرتزقة، وغياب الدعم الروسي الكافي سواء ميدانيا أو سياسيا.

حرب 2020 لم تنتهِ إلا بوساطة روسية تركية، أسفرت عن وقف إطلاق نار ومكاسب ميدانية لباكو وتنازلات قاسية من يريفان، والاستعانة بقوات حفظ سلام روسية لمراقبة تطبيق وقف إطلاق النار، مما عزز تواجد موسكو العسكري في المنطقة التي تمتلك في الأصل قاعدة عسكرية في أرمينيا. 

وأراد الرئيس بوتين من خلال تخليه الجزئي عن أرمينيا في هذه الحرب، إرسال رسالة للنخبة السياسية الأرمنية مفادها بأن روسيا هي الضامن الوحيد لاستقلال وأمن أرمينيا وفي حال غيابها كحليف لأرمينيا ستكون عرضة للعدوان.، ولكن على ما يبدو ان الرئيس باشينيان وحكومته وحزبه لم يستوعبوا رسالة الرئيس الروسي، ومضوا في اتجاه التقارب مع الحذر والبطيء مع الغرب مما زاد السخط الروسي.

 
وجاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتزيد الأمور تأزما حيث إن روسيا باتت منشغلة بالصراع الأوكراني، مع تطور مسار الصراع الاوكراني، وبدأت أصوات سياسية بارزة في يريفان تدعوا للخروج من الحلف مع روسيا والاتجاه غربا، وبدا ذلك واضحا بعدما غابت أرمينيا عن المناورات العسكرية الأخيرة لدول منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تقودها روسيا، ولم تكتفِ بذلك بل أقامت حكومة باشينيان مناورات عسكرية مع الولايات المتحدة على الأراضي الأرمينية في استفزاز واضح وصريح لسيد الكرملين.

والآن وبعد تصاعد التوتر بين روسيا وأرمينيا وسعي الأخيرة للتقارب مع الغرب، تشن باكو عملية عسكرية جديدة هدفها المعلن نزع سلاح ما تبقى من جمهورية أرتساخ، وأتت تلك الخطوة بعد أن أدركت أذربيجان أن روسيا لن تمد يد العون للأرمن بسبب موقف حكومة باشينيان من علاقات بلاده بها، وبسبب انشغالها أيضا بصراع أكبر بالوكالة مع قوى الغرب مجتمعة في أوكرانيا. 


ولكن المدهش أن الجيش الأرميني امتنع عن الانخراط في القتال الدائر بناجورنو كاراباخ، تاركا قوات أرتساخ لتواجه مصيرها في وجه جيش أذربيجان المجهز بأحدث المعدات من دول كتركيا وإسرائيل، وبالفعل أعلنت قوات الدفاع الأرمنية التابعة لجمهورية أرتساخ الاستسلام بعد أن أيقنت أنها ستواجه بمفردها عدو يفوق قدراتها علي كافة الأصعدة.

هذا المشهد المتأزم يمكن قراءته من عدة زوايا، من زاوية أذربيجان إلهام علييف يستغل الظرف الدولي المضطرب منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، ليحكم سيطرته على ما تبقي من ناجورنو كاراباخ، ويعزز شرعية نظامه وحكم أسرته للبلاد، من خلال إزالة كافة آثار الهزيمة التي تكبدها سلفه ووالده الرئيس حيدر علييف في عام 1994. 

أما تركيا فهي ترى أن تعظيم وضعية أذربيجان على حساب أرمينيا وروسيا في القوقاز، سيعزز من نفوذها في هذه المنطقة الاستراتيجية المجاورة لها بريا وبحريا، ولذلك تقدم دعما غير محدود لباكو. 

من جانبها تسعى حكومة أرمينيا لاستخدام ضياع ناجورنو كاراباخ المرجح كذريعة لتسويق موسكو كحليف غير أمين لشعبها الذي تربطه بروسيا أواصل دينية وتاريخية وثقافية، ولتتخلص من عبء جمهورية أرتساخ التي طالما كانت عائقا أمام تقاربها مع العديد دول الغرب. 

أما موسكو فهي تترقب انهيار شعبية باشينيان، بسبب عدم قدرته علي حماية شعوب الأرمن في ناجورنو كاراباخ وسيربطون ذلك بابتعاده عن روسيا، كما ستراهن علي إسقاطه من خلال ثورة شعبية أو انقلاب لتعود يريفان للحظيرة الروسية حتى وإن عادت مهزومة، فبالنسبة لموسكو أرمينيا منكسرة ومهزومة في جعبتها أفضل من أرمينيا قوية أو مزدهرة في أحضان الغرب.

اندلاع صراع مسلح جديد في القوقاز مؤشر خطير على مدى تراجع الاستقرار في العالم بفعل اهتزاز النظام العالمي الذي يمر بفترة انتقال حرجة من منظومة القطب الواحد لنظام تعدد الاقطاب، وستزداد وتيرة الحروب والصراعات بالوكالة في القوقاز وأوروبا وغرب إفريقيا والشرق الأوسط وغيرها من المناطق، إلى أن تقرر القوى الكبرى أن تعود للجلوس خلف الأبواب المغلقة، لإعادة ترسيم خريطة العالم الجيوسياسية بالشكل الذي يسمح بنظام عالمي متعدد الأقطاب، يتسم بتوازن القوى ويحقق الأمن والاستقرار العالمي.

تابع مواقعنا