حكمة البومة المشئومة
الكتب كالدنيا، فكلاهما لديه أسراره؛ فلا تظن يا صديقي أنك الوحيد الذي لديه أسراره، وتتشابه أسرار الكتب والدنيا في أن كلاهما يعرض أسراره على الناس فيفهمها من يفهم ويأبى من أبى، ومن أسرار الكتب تلك القصة التي سأرويها لك في السطور القادمة عما يثير دهشتك ويستثير فضولك.
ففي أحد الكتب القديمة المعروضة للمارة على أحد الأرصفة ولا يعلم قيمتها كثيرون ومنهم بائعه، وُجد كتاب يتحدث عن اللغات المندثرة والتي لم يعد يجيدها الإنسان المعاصر، وكانت من ضمن اللغات المندثرة هي لغة بني الحيوان بأنواعهم وفصائلهم المتمايزة، والتي تعتمد في كثير منها الحيوان. والإشارة المطعمة ببعض الأصوات، ولعلك في بادئ الأمر عندما تقرأ هذه المقالة أو يقع بين يديك هذا الكتاب المسحور ستعتقد في استحالة الأمر، ولكن ما إن تنتهي من قراءة المقالة أو الكتاب أيهما أيسر لك ستكتشف أنه قد أضحى لديك حصيلة لا بأس بها من لغة الحيوان.
ولأن معمل الاختبار هو التجريب والملاحظة فما إن انتهيت من هذا الكتاب وذهبت لإحدى الأحراش المحيطة بالمناطق الشعبية حول مدينة الزقازيق فإذا بي استمع وأرى ما أربك ذهني لغرابته وحكمته في آن.
فإذا بحركة غريبة تسري بين فئران الحقل، وما إن استرقت السمع وجدتها تتحدث عن حدث جلل قد يغير حال الحقل وما يحيطه من أحراش، فإذا بالفئران الكبيرة تحدث صغارها عن بوار أرض الحقل لجفاف مصارف المياه بها، وما يترتب على ذلك من احتمالية أن يبيع فلاحو الحقل ما تبقى لهم فيه – أي الحقل- والنزوح للمدينة بحثا عن رزق جديد، وقد أوضحت الفئران الكبيرة ما لهذا الجفاف وما قد يرتبط به من نزوح من مخاطر جمة على الجميع؛ فلاحون وطيور ودواب وحتى القوارض والزواحف، فتغير الظروف البيئية للحقل ستدفع الجميع لمغادرته فإذا كان الفلاح يزرع ليأكل، ويطعم دوابه التي هي بدورها تساعده في الزراعة، ويستفيد الطير من التقاط طعامه فوق ظهور الدواب وبين أكوام الطين، وكذا تستفيد القوارض من فتات الجميع، وتعيش الزواحف على فضلات ما سبقها.
وفي أثناء اتخاذ كل فأر قراره إما بالنزوح لحقل جديد يحدوه الأمل في حقل أرغد، أو الموت دون حقله بفعل طيب الكلام من أمهات الفئران عن أن الفلاح لن يبيع أرضه ويتركها ويتركنا معها، فبين هذا وذاك فإذا بفأر من المغامرين الذين ضربوا مجاري الحقل ومصارفه ضربًا، أشار عليهم بالاستئناس بالرأي الحكيم، ولما كان الموقف برمته جديدًا غريبًا عليهم، يفطنوا من قبل لحكمة أي منهم، فبدأت ثلة من الفئران الخبيرة رحلة البحث فيما حولهم من مخلوقات الله في الحقل سائلين الحكمة، فصادفوا أول من صادفوا حمار الفلاح، فإذا به يخبرهم أنه حكيم لصبره وجلده وطاعته الرخيصة لفلاح الحقل، ولكن ما إن تدبر أحد الفئران في قوله حتى تبين له وضاعته، فلولا هذه الطاعة لما آل وضع الحقل لما هو عليه، فتركوه محدثين خراف الفلاح ليسألوهم الحكمة، فما وجدوا منهم إلا ثغاء - وهو صوت "المأمأة"- فقال كبيرهم الذي لديه علم من العليم أنه لا سبيل للحكمة عند الخراف، فضجيجها لا ينتج وثغائها لا ينفع، وإذا بهم يلتقوا بأبي قردان لسؤاله فأخبرهم بأن حكمته تقضي إذ ما جدبت الأرض وجفت جلود حيواناتها سأحلق منفردًا غير آسف لحقل آخر غير آبه بما أتركه ورائي، وعند اقترابهم من كوخ فلاح الحقل وجدوا كلبه خرج في الجوار ليتغوط فاقتربوا منه في حذر لسؤاله، فما إن اقتربوا منه – ولوفائه المعروف- هاجمهم نابحًا قبل أن ينتهوا من سؤالهم، وشق عليهم الهرب والعودة لجحورهم بالحقل، وما إن انتصف الليل وفُقد الأمل وانعدمت الحكمة، فإذا بأحدهم صاح صارخا: وجدتها! فلنسأل البومة المشئومة، فإذا ببعضهم يسخرون منه واتهمه آخرون بالجنون، فقال أحد كبرائهم؛ ولما لا؟ فهي نذير شؤم عند بني البشر لا عندنا نحن معشر الفئران، فكم من مرة راح أحد الفئران فريسة لها في لمح البصر، وما مرد ذلك إلا لحكمتها البالغة فهي شديدة الهدوء، رصينة السلوك، نافذة البصر والبصيرة، لا تنام إلا وهي فاتحة عينيها، فهي بلا شك رمزًا للحكمة والبصيرة لدينا نحن معشر الحيوان، ولعل ذلك ما تبينه فلاحو الغرب منذ زمن بعيد فكانت رمزًا للحكمة ونفاذ البصيرة في ثقافتهم وليست نذيرًا للشؤم كما هو الحال لدينا.
وهنا اتفق سادتهم على الذهاب لبومة الحقل بحثًا عن الحكمة والخلاص معًا لما آل إليه حال الحقل، فإذا بهم وجدوها يقظة تنتظرهم في غير دهشة، فسألها كبيرهم كيف لنا الحياة في حقل قد جدب طينه، وجف نبعه وهجره فلاحوه؟! فإذا بحكمة مصقولة بخبرة السنين ونبرة رصينة تنم عن عقل راجح وقلب بصير، ونظرة ثاقبة تكشف عن فلسفة الطير وعمقها، وبلغة تعبر عن الحل والخلاص: إن إصلاح الحقل واستعادته للحياة ليس بيد الفلاح وحده فكما يقول أهل الريف في الأمثال القديمة "الغارزة لا تسلك نفسه" وإنما بتغير قناعات الجميع فلاحًا وكلابًا وخرافًا وطيورًا وفئرانًا أن الحقل للجميع وأن تبعه خرابه تقع على الجميع.