الذكاء الاصطناعي بين الصنعة والإبداع التشكيلي
عند طرح قضية حديثة ومُعاصرة مثل توظيف الذكاء الاصطناعي في فنون الكتاب من الأحرى أن نقف هُنيهة من الوقت نستدعي بها الدور المؤثر الذي لعبته فنون الجرافيك في نشر الوعي والثقافة والمعرفة، من خلال تعزيز فنون الكتاب على مستوى التصميم والصناعة، فقد عُرِف الكتاب بشكله الشفاهي، حيث يتناقل الناس النص الأدبي فيما بينهم، ومثال ذلك أسطورة الإلياذة والأوديسة المعروفة، ثم أصبح الكتاب منسوخًا باليد، ولنا في المُنمنمات الإسلامية خير شاهد، بغض النظر عن الجُهد والوقت المبذولان لنسخ عشرات الكتب فقط ما بين الكتابة والتذهيب والرسم التوضيحي، مما جعل المعرفة مُتاحة فقط لفئات بعينها وليست للجميع كما هو عليه الآن، إلا أن جاء فن الجرافيك بمعناه الكلاسيكي القديم وهو: فن خدش أو رسم أو نقش نص أو تصميم لإنشاء مُعالجات جرافيكية على الأسطح الطباعية سواء كانت خشبية أو معدنية أو حجرية أو أي أسطح أخرى، بغرض الاستنساخ، وهو ما يُسمى بـ التصميم المطبوع، وهُنا كانت بداية الثورة الكُبرى في عملية استنساخ الكتب بعد أن كانت مخطوطة باليد، الأمر الذي أتاح الكتب بشكل أوسع … وبداية من الطباعة من سطح بارز مرورًا بالطباعة من سطح غائر ووصولًا إلى الطباعة الحجرية الليثوجراف، الذي شكّلت التحول الأهم في صناعة الكتب ربما بسبب تميزها بسرعة الطباعة ودقتها وإتاحتها عدد أكبر من النُسخ… فكل هذا أثر بشكل كبير ليس فقط على الصناعة، ولكن فتحت أيضًا مجالات متنوعة واستحدثت مِهن لم تكن موجودة من قبل، مثل فني الطباعة وغيرها.
ومن تقنية إلى تقنية، ومرورًا بطباعة السلك سكرين، وصولًا لطباعة الأوفست.. ظل الجرافيك يتطور بشكل مُتسارع مُواكب للعصر ومتطلباته وتطلعاته..
ليس هذا فقط، ولكن هُناك ثورة جرافيكية أخرى كان لها الأثر الأكبر في عوالم صناعة الكتب، وهي الاختراع المُذهل للعالم الألماني يوهان غوتنبرغ والذي اخترع آلة الطباعة المُعتمدة على الحروف المتحركة في القرن الخامس عشر الميلادي …. الأمر الذي جعل صناعة الكتب تذدهر، وبالتالي يُستحدث مؤسسات نشر ويُفتح نوافذ جديدة يطل من خلالها المُبدعين بكتاباتهم ومعارفهم وإبداعاتهم، ومن ثم تُبنى المكتبات العامة وتنتشر الكتب ومنها تنتشر المعرفة ويسود العلم نواحي الحياة.
ومن ثورة جرافيكية إلى ثورة تكنولوجية، نُشاهد ونُعايش اختراع الحاسوب عام 1936 م على يد كونراد تسوزه، الذي سريعًا ما اقتحم مجال التصميم الجرافيكي ليُساعد الفنان والمصمم في انجاز تصاميمه وطرح عدد لا محدود من النُسخ بعد أن كانت نُسخ محدودة، واختصر الحاسب الآلي الوقت والجُهد وقدم رؤى جرافيكية أكثر حداثة وتطور.
وها نحن اليوم، نُعايش ثورة تكنولوجية وتقنية أخرى، لا تقل عن ما سبق.. وهي تقنيات الذكاء الاصطناعي التي اقتحمت مجال التصميم الجرافيكي في مُحاولات أخرى لطرح رؤى تُلبي احتياجات العصر من مفردات ولُغة وثقافة.
الذكاء الاصطناعي الذي في أبسط صوره يُعرّف بأنه: سلوك آلي يُحاكي السلوك البشري، ويُمكنه تطوير نفسه بنفسه، والذي أرى من وجهة نظري المُتواضعة أنه - أي الذكاء الاصطناعي - حتى الآن قيد المُعالجة والتطوير، على أية حال … بغض النظر عن مُناهضة أو اتفاق البعض حول قبول فِكرة تدخل الذكاء الاصطناعي في العملية الإبداعية، إلاّ أنه يجب علينا بكل الأشكال المُمكنة مُواكبة العصر في محاولة جادة لترويض مخاوفنا تجاهه.
لذا، حاولت طرح التساؤل البحثي الرائج الآن، وهو: إذا كانت فنون الجرافيك أثرت وتأثرت بكل الثورات التكنولوجية على مر العصور، فهل سيكون لتقنيات الذكاء الاصطناعي نفس التأثير؟
وحاولت الإجابة عن هذا التساؤل من خلال طرح مجموعة من الأعمال الجرافيكية (أغلفة كتب وروايات) نُفذت مع دور النشر المختلفة خلال هذا العام، ومُتكئة على تقنيات الذكاء الاصطناعي ومُعززة بتقنيات وأدوات جرافيكية رقمية، في محاولة لايجاد قواسم مُشتركة بين التطور العلمي والعملية الابداعية في خدمة وتعزيز فنون الكتاب كصناعة، وذلك في معرض جماهيري للعامة.. وننتظر جميعًا ونترقب بكل اهتمام ما يحدث من تطور في محاولة جادة لمواكبة هذا التطور.