الأربعاء 18 ديسمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

ننشر مقال الأستاذ محمد حسنين هيكل الذي استشهد به الرئيس السيسي عن الحرب

الأربعاء 04/أكتوبر/2023 - 07:53 م

قال الرئيس عبد الفتاح السيسي، إنه عندما كان يبلغ عمره 13 عاما وقت حرب 1967، كان يتذكر جيدا كل شيء عن الحرب، وكان يحتفظ بجميع البيانات وما يتم نشره عن الحرب في الصحف.

وخلال الندوة التثقيفية للقوات المسلحة، بمناسبة مرور 50 عاما على نصر أكتوبر المجيد، استشهد الرئيس السيسي، بأحد مقالات الكاتب الكبير الراحل الأستاذ محمد حسنين هيكل قبل حرب أكتوبر 1973، التي كانت ضمن خطة الخداع الاستراتيجي.

 

المقال بعنوان: تحية للرجال

 وتم نشر هذا المقال في 12 مارس 1971

لقد كان لا بد اليوم من وقفة بالتحية أمام الرجال الذين قد يضع التاريخ في أيديهم ومع أي لحظة، مسئولية وواجب القتال من أجل التحرير.

وبعد هذه الوقفة، نعود في الأسبوع القادم - بإذن الله - إلى بقية حديث متصل عن "تأملات حول الصراع الكبير".

لا بد لي اليوم من وقفة بالتحية، أمام هؤلاء الذين يحملون الآن أغلى أمانة في تاريخ مصر.

هؤلاء الذين صدرت إليهم الأوامر ليكونوا على استعداد دائم، يصل الليل بالنهار والنهار بالليل تحسبا للحظة قد تجيء في أي وقت.

هؤلاء الذين سوف ينطلقون مع عواصف النار والدخان والرعود الداوية والبراكين الهادرة على الأرض والصواعق الطائرة في السماء.

هؤلاء العاملون في صمت، المقتحمون في جسارة، المضحون في جلال، الزاحفون، برغم كل شيء، إلى هدف يتحتم بلوغه لأن أمن مصر وقدر مصر ومستقبل مصر معلق به.

وأمن مصر وقدرها ومستقبلها، هي نفسها، أمن وقدر ومستقبل أمة بأسرها تعيش نقطة فاصلة في تاريخها.

هؤلاء الرجال على جبهة القتال المصرية لا تكفي لتحيتهم اليوم عيون القصائد من دواوين الحماسة، ولا تنصفهم منابر الخطابة مهما اهتزت وارتجت عاطفةً وانفعالًا.

شيء واحد قد يكفي في ظني وقد يفي، وهو أن يكون شعبهم وأن تكون أمتهم على علم وبينة بالصورة العامة التي سوف يمارسون فيها دورهم الوطني والقومي، ذلك أنه بالقياس إلى حجم المهمة وظروفها، تبدو قيمة الجهد وتكاليفه.

وهذا ما أحاوله في هذا الحديث، وبالقدر الذي تسمح به متطلبات الأمان وهذه لها أولوية لا يسبقها اعتبار آخر.

أولا:

إن القوات المسلحة المصرية تواجه معركة من أصعب معارك التاريخ، وليست هذه صيغة مبالغة، وإنما هي وصف حقيقة.

وعلينا أن نتمثل أمامنا طبيعة الأرض التي قد يجد الجيش المصري نفسه أمامها، ثم ما أقامه العدو من مواقع على هذه الأرض استغلالا لطبيعتها.

إذا فعلنا ذلك فسوف نجد معالم الصورة تطالعنا على النحو التالي:

1 - مانع مائي خطير هو قناة السويس.

2 - كثبان رملية على شاطئها الشرقي مباشرة تجمعت وتراكمت بالظروف الطبيعية، ثم أضافت إليها عمليات التطهير المستمرة في قناة السويس، وكانت دائما تلقي بقاياها فوق الناحية الأخرى، وعلى هذه الكثبان أقام العدو خطه الدفاعي الأمامي على حافة الماء مباشرةً.

3 - منطقة رمال مفتوحة بعد ذلك ولكنها محاصرة بين شاطئ القناة وبين بداية المرتفعات نحو منطقة المضايق الحاكمة في سيناء والتي لا تبعد عن القناة نفسها بأكثر من ثلاثين كيلومترا.

4 - منطقة المضايق نفسها وهي طبيعة صخرية شديدة الوعورة وعليها أقام العدو خط دفاعه الثاني.

5 - الصحراء المكشوفة حول منطقة المضايق وما وراءها بما تقدمه من فرص لعدو يعتمد كثيرا على الطيران.

هذه هي طبيعة الصورة التي يجب أن نتمثلها تماما ونتفهم تفاصيلها؛ لأن ذلك سوف يتحدث عن الجهد البطولي لرجالنا بأكثر مما تتحدث عنه الكلمات حتى إذا كنا ننحت هذه الكلمات من صميم القلوب.

تبقى الطبيعة أبلغ دائما من كل الأوصاف.

نلقي نظرات أكثر تأنيا على أهم هذه المعالم التي صنعتها الطبيعة أو أقامها العدو استغلالا لهذه الطبيعة... وبالذات قناة السويس والشاطئ الآخر.

  1. قناة السويس.

مجرى مائي بعرض مائتي متر وبعمق أحد عشر مترا يمتد على خط مستقيم بين بحر وبحر... لا يتعرج مجراه ولا يدور، لا يرتفع منسوب الماء في مكان منه أو ينخفض في مكان آخر وإنما مستوى واحد على طول الخط الذي رسم وشق وسط الصحراء، وليس هناك فوق هذا المجرى جسر أو معبر واحد.

ومن هنا فإن ثقاة العسكريين في الغرب وفي الشرق يعتبرون مجرى قناة السويس واحدًا من أهم الخطوط الدفاعية الطبيعية في العالم من حيث كونه مانعا ضخما أمام المدافع ما يعد عائقا ضخما بالمقدار نفسه أمام المهاجم.

2- الشاطئ الآخر.

على حافة الماء مباشرةً وعلى الكثبان الرملية أو تحتها بمعنى أصح أقام العدو خط دفاعه الأول؛ تعزيزا لدور المانع الطبيعي وهو قناة السويس.

وكان العدو قد بنى على هذا الشاطئ ما عرف في مرحلة سابقة باسم خط بارليف، وشلت المدفعية المصرية هذا الخط وفكّت تماسكه، ولكن العدو أعاد بناء هذا الخط في الشهور الأخيرة وعلى صورة مغايرة تماما للخط القديم.

وتقول تقديرات مراكز الدراسات العسكرية في عواصم الغرب، إن إسرائيل أنفقت على إعادة بناء هذا الخط خلال الشهور الستة الماضية مبلغا يزيد على مائتي مليون جنيه إسرائيلي -أي ثلاثين مليون جنيه إسترليني- وكان السبب فيما يقدر خبراء هذه المراكز هو أن إسرائيل بعد إتمام بناء شبكة الصواريخ المصرية غيرت تخطيطها للمعركة القادمة.

- قبل عدة شهور كان تخطيطها أن تحارب معركتها ضد أي عملية عبور مصرية في منطقة الرمال المحصورة بين كثبان شاطئ القناة الشرقي وبين صخور الممرات.

كانت مهمة خط بارليف في تلك المرحلة هي تعويق أي عبور مصري.

أما الطيران الإسرائيلي فكانت عليه مهمة التصدي لقوات العبور المصرية أثناء تقدمها بعد ذلك لمحاولة ضربها.

- وبعد إتمام بناء شبكة الصواريخ المصرية غيرت إسرائيل تخطيطها وأصبح قرارها - فيما يقدر خبراء المراكز العسكرية في الغرب - أن تكون المعركة الكبرى ضد قوات العبور المصرية على حافة الماء مباشرة بواسطة التحصينات وبواسطة المدرعات وراء هذه التحصينات.

ومن هنا أعيد بناء خط بارليف وفق التصور الجديد للمعركة.

معنى ذلك أن الجيش المصري في تقدمه سوف يواجه ما لم يواجهه جيش من قبل، وأظنها سوف تكون - فيما أذكر - أول مرة في تاريخ الحروب يواجه أي جيش أمامه:

- مانعا أو عائقا طبيعيا صعبا [قناة السويس].

 

- ثم خطا دفاعيا أقيم على حافتها مباشرة [خط بارليف في وضعه الجديد].

من قبل واجهت الجيوش المتحاربة في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية عوائق مائية، نهر الفولجا في الشرق أو الراين في الغرب مثلا، ولكن هذه الأنهار الطبيعية لا تشبه ولا تقارب قناة السويس عمقا أو عرضا أو مجرى.

ومن قبل واجهت نفس الجيوش المتحاربة في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية خطوطا دفاعية حصينة، خط ماجينو الذي أقامته فرنسا، أو خط سيجفريد الذي أقامته ألمانيا مثلا، ولكن هذه الخطوط الحصينة لم تكن قابعة على حافة مانع مائي خصوصا إذا كان هذا المانع هو قناة السويس.

3- إذا ألقينا بعد ذلك نظرة على منطقة الرمال المفتوحة فيما يلي الكثبان الرملية المطلة على حافة قناة السويس..

فإن هذه الأرض المحصورة - بين كثبان الرمال وبين مرتفعات منطقة المضايق - هي الأرض التي كان العدو في مرحلة سابقة من تخطيطه يريدها مسرحا أساسيا لعربدة طيرانه ضد قوات أي عبور مصري.

وبعد إتمام تركيب شبكة الصواريخ المصرية غيّر العدو تخطيطه؛ لأن مدى هذه الصواريخ يمكن أن يغطي هذه المنطقة ويجعل عمل الطيران فوقها محفوفا بالمخاطر.

وهكذا في التخطيط الجديد - فيما تقول مراكز الأبحاث في الغرب - إن العدو نقل مسئولية العمل في هذه المنطقة من الطيران إلى المدرعات.

وأصبح قراره أن يوجه الصدمة الأولى ضد قوات العبور المصرية من خط التحصينات على حافة القناة... لكي تكون هذه التحصينات طبقا للتصور الإسرائيلي بمثابة مصفاة.

وما ينفذ من المصفاة تتلقاه قوات المدرعات في المنقطة المفتوحة المحصورة بين كثبان الرمال وبين بداية المرتفعات نحو المضايق.

4 - والمضايق بعد ذلك هي خط الدفاع الثابت الثاني بعد الخط الأول المرتكز على حافة القناة.

ومنطقة المضايق سلاسل جبال تتشابك وتدور حول بعضها وهي في تقدير كل المهتمين بدراسة سيناء المفتاح الرئيسي للسيطرة على هذه الصحراء المقدسة.

وكانت منطقة المضايق هي هدف عملية الإنزال المشهورة في ممر ميتلا سنة 1956، وكان الإنزال فيها ثنائي الهدف:

- احتلالها ومنع الكتائب المصرية القليلة في سيناء وقتئذ من التمركز فيها لوقفة دفاعية تصد الجيش الإسرائيلي عن الوصول إلى قناة السويس.

- ثم إن احتلالها إذا تم بعملية إنزال سريعة تعطي الإسرائيليين فرصة ليعلنوا أن قواتهم وصلت إلى بعد خمسة وثلاثين كيلومترا من قناة السويس، وكانت هذه هى الإشارة المتفق عليها لتتم المؤامرة الثلاثية. ويعلن إيدن - رئيس وزراء بريطانيا - وموليه - رئيس وزراء فرنسا - أن بلادهما سوف تضطر إلى التدخل لفصل المتحاربين حول القناة ولحماية هذا الممر الهم للملاحة العالمية.

5- وأما الصحراء المكشوفة من حول منطقة المضايق وما وراءها فليست عليها موانع طبيعية حتى بلوغها خط الحدود المصرية الدولي تقريبا.

وفي هذا الاتساع الصحراوي الشاسع والمفتوح، فإن إسرائيل تعتمد على المناورة بالمدرعات وعلى تركيز الطيران.

هكذا فإن خطة الدفاع الإسرائيلي أصبحت تعتمد على خطين ثابتين:

الأول - القناة وخط بارليف.. والآخر - جبال المضايق.

كذلك فإنها تعتمد على منطقتين مكشوفتين لعمل المدرعات والطيران:

- أولاهما المنطقة المحصورة ما بين كثبان الشاطئ الشرقي إلى المضايق..

- والأخرى الصحراء المفتوحة من حول المضايق وما يليها.

 

هذه لمحات سريعة كأنها جوانب مشهد يلتقطه البصر في طرفة عين ويمضي بعده بسرعة إلى بقية مشاهد الصورة العامة التي سوف يمارس فيها الجيش المصري دوره الوطني والقومي.

ثانيا:

إن الجيش المصري سوف يواجه المعركة وحده.

سوف تصدر بيانات تعلن عن رفع درجة الاستعداد في جيوش عربية أخرى.

وسوف تنطلق إعلانات تذيع أن قوات هذا البلد أو ذاك على استعداد للتوجه إلى ميدان القتال.

ولكن من سوء الحظ أن المعارك لا تُخاض بالبيانات والإعلانات.

ومن سوء الحظ أكثر أن هذه البيانات والإعلانات لا تساعد الجيش المصري بقدر ما تساعد عدوه.

وللعقيد معمر القذافي في هذا التقليد العربي رأي نافذ ولعله رأي جارح يقول فيه:

- لماذا ندعي بعكس الحقيقة... لماذا لا نقول برجولة إن الجيش المصري وحده في الميدان؟

المشكلة أننا حين نغالط وندعي بوجود غيره فإن كل ما نفعله هو أننا نوحي للعالم أن إسرائيل محاصرة بعدة جيوش وأن دولا عديدة تكالبت عليها وبالتالي فإننا نفتح لها الباب لكي تشد غيرها معها في المعركة.

ويبقى الجيش المصري أمامها وحده، وتستغل هي الأوهام التي نطلقها نحن فتجيء بغيرها يساعدونها بالطريق المباشر أو غير المباشر على أساس خرافة أن الأعداء أطبقوا عليها من كل جانب!.. لماذا لا نقول الحقيقة ولو مرة واحدة.. ونقولها ولو حتى بالسكوت ما دمنا لا نملك غيره؟.

ثالثا:

إن الجيش المصري سوف يواجه الجيش الإسرائيلي بأكمله، وكل المعلومات - مرة أخرى لدى مراكز الدراسات العسكرية في الغرب وفيها الثقاة والخبراء- تشير إلى أن ذلك هو المعنى، الذي يمكن استخلاصه من توزيع القوات الإسرائيلية على الجبهات العربية.

الجبهة الأردنية ليس عليها غير قوات الأمن الداخلي في إسرائيل.

الجبهة السورية ليس عليها حتى هذه اللحظات غير لواء واحد.

والجبهة المصرية أمامها الآن في سيناء - غير ما يمكن دفعه بسرعة فائقة من القوات الاحتياطية - ما يلي:

- فرقتان من المشاة الميكانيكية [35 ألف جندي].

- فرقة مدرعة [أربعمائة دبابة بأطقمها].

- لواء قوات كوماندوز محمول جوا بالهليكوبتر [70 طائرة هليكوبتر وثلاثة آلاف من قوات المظليين].

- مائة قاذفة ومقاتلة في مطارات سيناء القريبة.

- ما بين ثمانمائة إلى ألف مدفع ثقيل.

هذا غير قوات خط التحصينات القابع على حافة الماء مباشرةً وحقول ألغامه، ونطاقات أسلاكه الشائكة، وأسلحته، وما زود هذا الخط نفسه به من المخترعات وحيل الخداع والتمويه.

وهذا أيضا غير ما تستطيع إسرائيل دفعه بسرعة إلى مسرح العمليات المصري في حالة اتساع مدى القتال واضطرارها إلى التعبئة الجزئية أو العامة.

وفي هذه الحالة فإن الجبهة المصرية سوف يكون عليها أن تتحمل طاقة ثلاث فرق مدرعة [1300 دبابة] وخمس فرق من المشاة الميكانيكية، وقوة السلاح الجوي الإسرائيلي كلها [أي نحو 600 طائرة بينها الفانتوم وسكاي هوك والميراج وغيرها].

 

رابعا:

إن الجيش المصري سوف يقوم بما يتحتم عليه أن يقوم به، ويواجه ما يتحتم عليه أن يواجهه بعد قرابة أربع سنوات حافلة.

1- كان عليه في بدايتها أن يتحمل خطايا هزيمة لم يكن الذنب فيها على المقاتلين [وتلك مسألة سوف يدور فيها بعد المعركة بحث طويل يضع الحق في مكانه ويكتب التاريخ كما ينبغي أن يكتب التاريخ إنصافا وانتصافا].

2- كان عليه أن يتحمل بعد ذلك استفزازات لا قبل لمقاتل شريف بتحملها ولكنه تقبلها بمنطق الكاظمين الغيظ انتظارا للحظة يستطيع فيها أن يرد على النار بالنار.

ولكي يصحح تصورا شاع، جعل عدوه أسطورة وجعل منه هو عبرة، والتصور بشقيه على غير أساس فلا عدوه يستحق أن يكون أسطورة ولا هو يستحق أن يكون عبرة!.

3-وكان عليه فيما تلا ذلك أن ينصرف لعملية إعادة بناء نفسه واستيعاب سلاحه واستعادة الثقة في المثل الأعلى.

وكانت عملية إعادة البناء واستيعاب السلاح واستعادة الثقة، في أصعب الظروف الطبيعية والإنسانية، من تحمل قسوة الصحراء إلى تحمل سيطرة العدو الجوية على السماء.

4- وفي هذه الفترة واجه تجربة بالغة القسوة نفسها عليه، تلك هي أن العدو راح يتجنبه وينفذ من فجوات بعيدة إلى عمق مصر، يحاول منها أن يطول المرافق الحيوية أو يتجاوز ذلك إلى الإغارة على أهداف مدنية يقتل فيها الرجال والنساء والأطفال في المصانع وفي المزارع وفي المدارس.

5-وتوقفت قسوة التجربة النفسية لتفسح الطريق لتجربة أخرى.

وتحول العدو من غارات العمق وراء الجبهة وصب جنونه كله على شريط رفيع من الأرض بمحاذاة الشاطئ الغربي لقناة السويس وبعرض ثلاثين كيلومترا بعد ذلك عمقا.

على هذا الشريط المحدد، وهو ركيزة الخط الأمامي من الجبهة المصرية، كان متوسط غارات العدو اليومية 150 غارة، وكان معدل القصف متوسطه 1200 طن متفجرات كل يوم، ولأكثر من مائة يوم متواصلة.

وكانت طاقة التحمل المصري مجيدة حتى استطاعت طلائع شبكة الصواريخ أن تأتي بأسبوع "تساقط الطائرات" المشهور وهو الأسبوع الأول من يوليو1970.

6-ثم وجد نفسه مدعوا بالتطورات أن ينتقل من عصر إلى عصر في الحروب.. من عصر الحروب التقليدية إلى عصر الحرب بالإلكترونيات، ومن عصر الرؤية النهارية بالنظارات المكبرة إلى عصر الرؤية الليلية بالأشعة تحت الحمراء.

7- وفجأة - والدنيا هائجة مائجة - رحل قائده الأعلى.

إن الدنيا اهتزت كلها لرحيل جمال عبد الناصر، ولكن ما من مكان كان وقع الصدمة فيه مروعا كما كان في الجبهة.

كانت الصلة بين عبد الناصر والمقاتلين صلة من نوع خاص.

كان المقاتلون يعرفون أن الرجل الذي يمسك في يده بزمام المعركة قادر على تحريك عوالم بأكملها وذلك عن طريق مكانته وشخصيته التاريخية التي تملأ منطقة الشرق الأوسط بأسرها وتؤثر منها على العالم.

كانت هناك هالة ثقة - صنعتها التجارب - تحيط به في كل وقت... كان بشكلٍ ما رجل الأوقات العصبية، وكان رجل المعجزة في زمان بعد عهده بالمعجزات.

لكن فترة الانتقال - من المعركة بوجود عبد الناصر إلى المعركة على طريق عبد الناصر- مرت بأمان.

8 - وكان مطالبا في النهاية بأن ينتظر السياسة تحل الأزمة -بالسلم - إذا لاح للسلم طريق.

أو تصدر إليه الأمر بالقتال، إذا استحال طريق السلم، وتكون على الأقل قد مهدت له الأجواء كي يؤدي مسئوليته في أكثر الظروف السياسية ملاءمةً لإنجاح مهمته، ومع المراعاة الكاملة لإطار التوازن الدولي الراهن وهو إطار لا يستطيع أحد أن يتجاوزه بسهولةٍ أو يسر.

خامسا:

وطول الطريق ومنذ البداية وإلى النهاية فإن الجيش المصري كان يراوده إحساس أصيل بالانتماء إلى شعبه.

وكان شعوره عميقا بمدى التضحيات التي قدمها هذا الشعب حتى من قوت يومه؛ لكي يوفر للجيش كل ما هو ضروري.

وكانت القوات تتشوق مرات كثيرة إلى خوض المعركة، ولو قبل تمام الاستعداد لها؛ لكي تختصر بعض العبء على الشعب، وكانت في ذلك على استعداد لأن تدفع الفارق من تضحيات بالدم إذا دعا الأمر.

وذلك شعور لا يستطيع أن يحس به غير الذين يستطيعون أحيانا أن يلمسوا نبض المقاتلين، ويتسمعوا بشفافية العاطفة على دقاته وخفقاته.

وتلك ميزة من ميزات جيش الشعب يختلف بها عن غيره فهو ليس جيش حزب، ولا حزب جيش، كما أنه ليس أداة قمع لسلطان، أو طبقة فوق الطبقات.

وخلال الأيام الأخيرة، ومنذ أعلن أنور السادات في خطابه إلى الأمة يوم الأحد 7 مارس "أنه قد جاءت اللحظة التي يتحتم فيها على كل مصري أن يقف ليؤدي واجبه" فإن أمة بأسرها كانت تحاول من بعيد أن تصغي لأحاديث الجنود.

وكانت الأصداء من هناك حماسة صافية، حماسة الشجاعة المبرأة من كل أثر للمزايدة التي شوهت مع الأسف وجه النضال العربي المعاصر.

هناك لم تكن حماستهم مزايدة... إنهم هناك على خط النار.

لا.. لا يزايدون.. لأنهم هناك على خط النار.

تابع مواقعنا