بائعو الوهم
أين أنتم يا جن؟ أستهل مقالي بهذا السؤال ليس إنكارًا لخلق خلقه الله ولا استهزاءً به، فالسؤال يطرح نفسه بلا لجاجة وهو بحاجة إلى إجابة من أصحاب العقول المستنيرة، إجابة تستطيع مواجهة تدليس المدلسين الذين لا ينكفون يخلطون بين الإقرار بوجود الجن، والتسليم لهم بأنهم يعرفون دقائق هذا العالم الخفي المستور وأسراره، بل ويتواصلون معه، فالأول لا تلزم معه صحة الأخير، في عالمنا الحديث هناك العديد من الأساطير والروايات التي تحولت إلى أفلام ومسلسلات فدخلت كل بيت وغزت كل عقل، منها ما تحدث عن عوالم الجن، وهناك موجات متعاقبة من الانجراف خلف من يدّعون أنهم يستطيعون فعل المستحيلات من خلال تواصلهم مع عالم الجن، وهذا كله يدعونا لمراجعة النفس وتصحيح الأفكار.
باستعراض الشواهد فقد أفردت كثير من البرامج التلفزيونية لبعض من يدعون صلتهم الوثيقة بالجن العديد من اللقاءات مع ألمع مقدمي البرامج تحدثوا فيها عن إنجازاتهم العظيمة في حل كثير من الأزمات والكوارث، وكانوا يتحدثون عن علاقتهم برب الانس والجن وكيف خصهم الله بهذا الفضل والكرم عن كثير من البشر، كما ادعوا أن لديهم القدرة على معالجة الحالات المرضية المتعلقة بالمس من الجن! نحن لا ننكر البتة إمكانية أن يكون الجني مع الإنسي حيث جاء هذا الخبر في كتاب الله عز وجل، وكنا معهم كمشاهدين نغوص كلانا في بحر يمتزج ماؤه بالحقيقة والخيال ولا ننكر أنهم نجحوا في إقناع الكثير من أصحاب النفوس الضعيفة والعقول الواهية بأنهم شيوخ لهم قدرة كبيرة على السيطرة على عالم الجن.
لكن لا يجعلنا ذلك نغفل عن دكاكين فتحت لنهب الناس وسرقة أموالهم وممتلكاتهم من قبل دجالين كَذَبة، بعضهم يغرق في المحرمات بذريعة علاج المبتلين من الرجال والنساء.
الجن يا سادة من الأمور الغيبية التي يجب علينا الإيمان بها والإيمان بأنها خلق من مخلوقات الله، وأن لخلقهم غاية في هذه الحياة لا تختلف عن غاية خلق الإنسان، ألا وهي عبادة الله وحده لا شريك له قال تعالى ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) الذاريات 56، وقد وصفت السنة النبوية العديد من الصفات التي يتحلى بها الجن من حيث القوة والحركة والمأكل والمشرب وأماكن السكون، وعالم الجن عالم مستقل بذاته، له طبعه الذي يتميز به وصفاته التي تخفى على عالم البشر، ويتميز الجن بقدرات تفوق قدرات البشر قد يعجز الإنسان الغير مؤمن في صديقها مثلما جاء في سرد قصة سيدنا سليمان عليه السلام فقد تعهد عفريت من الجن بإحضار عرش ملكة اليمن إلى بيت المقدس في وقت متناهي في الصغر قال تعالى: ( قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين. قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرًا عنده قال هذا من فضل ربي) النمل: 39-40، وكان بعض العرب يعتقدون أن الجن يعلمون الغيب ويخبرون به الكهان، كانت الشياطينُ تصعد قريبا من السماء فتسترق السمع وتوحى به إلى أوليائها من الإنس، وهم الكهان والعرافين، كما أن العرب قد اعتقدوا أن الجن من سكان وادي عبقر يسردون الشعر ويوحون به إلهامًا للشعراء من البشر.
اختص الله سبحانه وتعالى بعلم الغيب فهو له وحده، وكان تفضلًا من الله حينما أطلع بعض الرسل على بعض الأمور الغيبية عن طريق الوحي إليهم، لأنهم مؤيدون بالمعجزات وتصديقًا لنبوتهم ورسالتهم. وأكبر دليل على عدم معرفة الجن بعلم الغيب هو موت سيدنا سليمان عليه السلام، قال تعالى (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) سبأ: 14. لذا فالسؤال الذي يطرح نفسه ثانيةً ألم يكن من الأولى أن يخبر الجن بعضهم بعضًا بما سيحدث لهم وأن يغنوا أنفسهم؟! ماذا إذا وجهت تلك الأسئلة لأصحاب العقول والنفوس الضعيفة التي تستعين بهم وتنفق الكثير من أجل السير ورائهم.
للأسف الشديد فالشعوذة تزداد خطورتها إذا اكتست بغطاء ديني، بما يوهم الناس بمشروعيتها في حين أن الإسلام قد نهى عن تلك الخرافات، بل وحذر من اللجوء إلى السحرة.
وفي النهاية لا ننكر أثر الدعاء وقراءة القرآن والروحانيات لعلاج المشاكل التي يتعرض لها الانسان، ولكن أين هم أصحابها الحقيقيون؟ الذين لا يتلبسون بما لم يعطوا، ولا يفتون بدون علم، بل ينتهجون نهج الكتاب والسنة.