الجمعة 22 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

الصراع العربي الإسرائيلي وميلاد التعددية القطبية

الأربعاء 11/أكتوبر/2023 - 06:32 م

في ظل عالم مضطرب أصابته تغيرات عاصفة خلال السنوات الثلاثة الماضية، ظن البعض أن القضية الفلسطينية قد انتهت، هذه القضية التي يراها البعض كإرث ثقيل من الماضي من الأفضل تجاهله ونسيانيه وردمه بالتراب، بدلا عن محاولة إيجاد حل حقيقي ومنصف وعادل لها، بسبب ما يحيطها من معادلات معقدة تبدد أفق أي تسوية. 


ولكن في صباح السابع من أكتوبر 2023 وفي الذكري الخمسون لعبور أكتوبر 1973، استعاد الشعب الفلسطيني ذمام المبادرة وشنت فصائل المقاومة هجوم هائل استهدف المواقع العسكرية والبلدات المتاخمة لقطاع عزة خلف الالاف من القتلى والجرحى، وأسرت المقاومة خلال عمليتها المسماة "طوفان الأقصى" العشرات من الجنود الإسرائيليين من بينهم جنرال واحد على الأقل، واحتجزت أيضا عددا كبيرا من المدنيين. 

الهجوم الفلسطيني الجريء المباغت، أهدر هيبة جيش الاحتلال وفضح منظومته الاستخباراتية، وهز ثقة الشعب الإسرائيلي في مؤسساته الرسمية وبنيانه السياسي وأجهزته الأمنية والعسكرية، مما دفع تل أبيب لإعلان حالة الحرب للمرة الأولي منذ حرب 1973، وبدأت في شن عملية عسكرية واسعة النطاق ضد الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، وتعهدت الحكومة الإسرائيلية ذات التوجه اليميني والمكونات المتطرفة أن ردها العسكري سيدمر الفصائل وغزة، وسيغير وجه الشرق الأوسط، بل ذهب وزير الدفاع إلى حد القول إن جيشه يقاتل حيوانات بشرية، ووجه لجنوده رسالة مفادها بأن قوانين الحرب الآن معطلة، وتعهد أنه لن يتم محاكمتهم على خلفية أي تصرف يقومون به في إشارة واضحة إلى قبول شبه علني لارتكاب جرائم حرب في حق الفلسطينيين.

 

 وفرضت سلطات الاحتلال حصارا كاملا على غزة، عبر قطع إمدادات الماء والكهرباء والغذاء، بل وقصفت الجانب الفلسطيني لمعبر رفح الحدودي مع مصر، ليعرقل جهود مصر الإغاثية لإنقاذ أهل غزة من الجوع وتخفيف معاناتهم.

 

ما نستطيع أن نستشفه مما سبق، أن إسرائيل في ضوء هجوم المقاومة غير المسبوق الذي استطاع أن يزلزل كيانها ويشعرها بالخطر الوجودي، قررت أن تضع قواعد وضوابط فضفاضة للصراع القائم، تسمح لها بالبطش والقتل والتجويع والتهجير دون رادع أو قيد أخلاقي أكثر من أي وقت مضى، وبالفعل حتى تاريخ تحرير هذا المقال استشهد ما يزيد عن 1000 فلسطيني تحت وطأة القصف الإسرائيلي العشوائي لمدن وأحياء قطاع غزة، ولا يبدو أن إسرائيل تأبه للأسرى والرهائن المحتجزين لدى الفصائل الفلسطينية، وشددت علنا أنها لن تأخذهم في الحسبان في إدارة معركتها مع المقاومة الفلسطينية.


هذا البطش الإسرائيلي لم يكن إلا بمباركة أمريكية، تمثلت في الدعم الأمريكي المعتاد وغير المشروط لسلطة الاحتلال في معركتها، من خلال إرسال قطع عسكرية بحرية لردع تدخل أي طرف ثالث في الصراع، وعبر تقديم مساعدات عسكرية أولية بقيمة 8 مليارات دولار، وتضامن غربي تمثل في إدانة للطرف الفلسطيني فقط وامتناع الاتحاد الأوروبي عن مواصلة تقديم المساعدات الاقتصادية للفلسطينيين، وتبنت بعض البلدان في بقاع أخرى من العالم خارج الإطار الغربي الموقف ذاته الداعم لوجهة النظر الإسرائيلية، أبرزها: الهند والأرجنتين وكوريا الجنوبية وتايلاند، والفليبين وسنغافورة وتشيلي واليابان، وما يجمع هذه الدول هو العلاقات الوثيقة بالغرب وإسرائيل، وأدانت دول أخرى عمليات المقاومة دون أن تغفل عن المطالبة بإيجاد حل جذري للصراع، عبر الالتزام بحل الدولتين وأبرز من تبنى هذا الموقف كانت البرازيل وبعض دول الخليج التي طبعت مع إسرائيل.

 

ولكن على ما يبدو أن تل أبيب وواشنطن ولندن وبرلين وباريس وغيرها من العواصم القطب الغربي، نست أو بالأحرى تناست عن عمد أن العالم منذ الحرب الروسية الأوكرانية بدأت تتغير ملامحه، وأصبح للجنوب العالمي صوتا مسموعا، فضلا عن صعود أقطاب جديدة شرقا على رأسها الصين وروسيا الاتحادية، فعلى سبيل المثال روسيا لم تدِن عمليات المقاومة، وحملت إسرائيل والولايات المتحدة مسؤولية ما يجري في غزة، مرجعة ذلك إلى عدم احترام قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية.

 
والاتحاد الإفريقي وعدد من الدول الإفريقية، أبرزها جنوب إفريقيا حملت السياسات الإسرائيلية مسؤولية تفاقم الأوضاع بسبب التوسع في سياسات الاستيطان وعدم احترام الأماكن المقدسة الخاصة بالمسلمين والمسيحيين في القدس الشرقية، وخرجت من عدد من العواصم القارة الأسيوية وأمريكا الجنوبية مواقف مشابهة تحمل ضمنيا إسرائيل مسؤولية ما حدث وتميل للتعاطف مع الشعب الفلسطيني، مواقف من دول مثل إندونيسيا وماليزيا وكوريا الشمالية وكوبا وفينزويلا وبنغلاديش، ومن نفس القارات الثلاثة خرجت أيضا مواقف تميل للحياد دون إدانة أي طرف، مع التأكيد على حل الدولتين، أبرزها مواقف الصين وفيتنام وكولومبيا وباكستان وتركيا.

 

الموقف العربي باستثناء عدد قليل من الدول يقف بوضوح في صف القضية الفلسطينية، فمصر عبرت عن موقفها الرافض للتصعيد الإسرائيلي وارجعت سبب انفجار الأوضاع للجمود الذي أصاب القضية الفلسطينية بعفل سياسات إسرائيل المعادية للسلام، وبل وحذرت مصر من دعوات حل القضية الفلسطينية على حساب أطراف اخري عن طريق تهجير فلسطيني غزة لسيناء المصرية وذلك ردا على تصريحات إعلامية لمسؤولين إسرائيليين دعت المدنيين في غزة للفرار الي مصر، ورغم عرقلة إسرائيل لحركة معبر رفح الحدودي لاتزال مصر مصرة علي إرسال قوافل الدعم الإنساني للقطاع لإغاثة أهل غزة في تحدي واضح للتهديدات الإسرائيلية. والمملكة العربية السعودية رغم انخراطها في مفاوضات لتطبيع العلاقات مع إسرائيل حملت تل أبيب مسؤولية خروج الأوضاع عن السيطرة وأغلب الدول الأعضاء بجامعة الدول العربية تعي المخططات الإسرائيلية لتقويض القضية الفلسطينية وتصفيتها مستغلا هذه الحرب الغير مسبوقة التي تشنها علي الشعب الفلسطيني.

 

الموقف الإيراني جدير بالدراسة والتمعن في سياق هذه الأزمة على حدى نظرا لأهميته، وتأثيره على مجرى الأحداث، طهران من أكبر داعمي حركتي حماس والجهاد في غزة، وهي الراعي الرئيسي لحزب الله اللبناني ومليشيات مذهبية أخرى في سوريا والعراق، فضلا عن التواجد الميداني لحرسها الثوري في الجنوب السوري على مقربة من هضبة الجولان المحتلة، يرى المحللون أن حماس والفصائل الأخرى في غزة ما كانت لتسطيع أن تشن هجوما بهذا الحجم ضد دولة الاحتلال دون دعم وتدريب وتأهيل وتسليح وتخطيط إيراني، حيث إن طهران وتل أبيب منخرطتان في صراع بالوكالة في المنطقة منذ الثمانينيات، وارتفعت وتيرة هذا الصراع مؤخرا مع التدخل الإيراني الناجح في الحرب السورية واستمرار إيران في مساعيها الغير معلنة لتطوير أسلحة دمار شامل، وإسرائيل على مدار السنوات الماضية استهدفت مواقع لمليشيات إيرانية في سوريا وإيران في كل مرة، كانت تتعهد بالرد على تجاوزات تل أبيب، ولعله من المنطقي أن يكون الرد قاسيا على هذا النحو الذي نراه بعملية "طوفان الأقصى". 

 

ورغم أن إسرائيل تشن الآن حربا بلا سقف على غزة، لا تزال في مرحلة القصف الجوي والدفعي للقطاع وحصاره، إلا أن تقارير إعلامية أفادت بأن حزب الله أبلغ قوى إقليمية كبيرة أنه سيدخل الحرب الي جانب الفلسطينيينـ ويفتح جبهة جنوب لبنان إذا أقدمت تل أبيب على اجتياح بري لغزة، وبالفعل منذ أن بدأ الصراع الحالي حدثت مناوشات على الحدود اللبنانية الإسرائيلية تسببت في إحداث خسائر بشرية أو مادية في صفوف الطرفين، ولكن يظل فتح جبهة جنوب لبنان مقترنا بإطلاق حملة برية إسرائيلية ضد القطاع، وكما يعلم أي خبير أو حتى مراقب لشؤون الشرق الأوسط، حزب الله أداة تحركها إيران وفقا لحساباتها، ولعل التلويح بفتح الجبهة اللبنانية الهدف منه غل يد تل أبيب، حتى لا تتمكن من غزو القطاع والقضاء على الفصائل، خاصا وأنها لا تأبه كثيرا أن تتكبد خسائر بشرية في هذه المرة نظرا لفداحة الكبوة التي أصابتها في بداية الهجوم. 

والحسابات الإيرانية في هذا الصدد منطقية، حيث إن إسرائيل تخشي اشتعال جبهة أخرى في لبنان بالتوازي مع جبهة غزة، لأن حزب الله لديه قدرات تفوق قدرات الفصائل الفلسطينية مجتمعة بمراحل، بل يذهب البعض للزعم بأن الحزب تجهيزاته وخبراته العسكرية تفوق بعض الجيوش النظامية في المنطقة وعلى رأسها الجيش اللبناني، أي أن المواجهة مع حزب الله قد تكون لها عواقب لا يستطيع أحد أن يتوقعها أو يتخيلها، من بينها انجرار إيران نفسها والنظام السوري لهذه الحرب، وهو ما لا يريده أي من الأطراف الإقليمية أو الدولية الفاعلة، بما فيها تل أبيب وطهران وواشنطن وموسكو..

 
الساعات والأيام المقبلة ستكشف ما إن كانت إسرائيل ستخاطر بغزو غزة، وما إن كان حزب الله ومن خلفه إيران جادين فيما مرروه من تهديدات عبر قنوات خلفية، ولكن ما هو أكيد أن الحرب الحالية تشير المعطيات الدولية إلى استمرارها، فإسرائيل لن تتوقف إلا إذا نجحت في تحقيق نتائج تسوقها لمجتمعها الغاضب المصدوم، كانتصار على قدر ما تعرضوا له من خسائر هائلة، والولايات المتحدة ملتزمة بموقفها التاريخي الداعم لإسرائيل، وستقدم كل سبل الدعم لها على غرار ما فعلت منذ 50 عاما حتى تخرج إسرائيل من المشهد علي هيئة المظفر بدماء أعداءه، وطهران ترى الحرب الجارية كفرصة لاستنزاف إسرائيل، وكشف مواضع ضعفها لتتقلص قدراتها العسكرية وإرادتها السياسية حيال أي ضرب محتمل للمنشآت النووية الإيرانية.

 

وموسكو حليفة إيران والخصم الأكبر للمعسكر الغربي، لا تمانع في استمرار الصراع الذي نجح في اشغال الغرب عن الحرب الأوكرانية، خاصة وأن جزءا من الدعم العسكري الموجه لكييف تم تحويله بالفعل لتل أبيب ليدعم عملياتها العسكرية، ومن مصلحة موسكو أيضا أن تتراجع قوة وأهمية إسرائيل في المنطقة، حتى لا تمثل تهديدا لحلفاء روسيا في المنطقة، أما بكين الصامتة تقف على الحياد مستفيدة من انشغال الولايات المتحدة مرة أخرى بحروب الشرق أوسط، مما سيصرف جزءا من انتباهها ومواردها وقدراتها عن مضيق تايوان وبحر الصيني الجنوبي، الذي تسعى الصين لفرض نفوذها عليهم. 


الحرب في فلسطين أعادت الصراع العربي الإسرائيلي لصدارة المشهد الدولي من جديد، ولكن هذه المرة كجزء من صراعات أكبر تديرها القوى الكبرى ضد بعضها البعض، في محاولة منها لإدارة عملية تحول عصيبة من منظومة القطب الواحد إلى التعددية القطبية، فهل ستستخدم عملية التحول غير واضحة الأطر هذه في إيجاد حل نهائي لهذا الصراع القديم؟ أم سيتأقلم معها جرثوميا وفقا لحركة توازناتها مثلما فعلت خلال فترة الحرب الباردة وعصر القطب الأوحد الذي أغربت شمسه دون رجعة؟

تابع مواقعنا