هل تجتاز منظومة حقوق الإنسان الدولية اختبار غزة؟
مما لا شك فيه أن الصراعات المسلحة من الصعب أن تخلوا من انتهاكات حقوق الإنسان، حيث إن هذه الصراعات في حد ذاتها يكون إهدار روح الآخر إحدى وسائلها أو حتى غايتها. وبالتالي الحروب من حيث المبدأ لا تنسجم مع مفهوم حقوق الإنسان.
إلا أن ما نشهده حاليا في الصراع الجاري بين فصائل المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال الإسرائيلي بالأراضي الفلسطينية من انتهاكات فجة لحقوق الإنسان يفوق الخيال في قبحه ومنهجيته. عمليات قتل جماعي لمدنيين عزل، تهجير قسري للسكان، هدم للمنازل، استهداف عمدي للمنشآت الصحية والتعليمية ودور العبادة ومراكز إيواء النازحين واعتداء على الصحفيين. تشكل كافة هذه الانتهاكات خرقًا صارخا للقانون الدولي الإنساني (قوانين الحرب) وشرعية حقوق الإنسان الدولية.
انتهاكات افضت إلى استشهاد نحو 4000 إنسان بينهم 1500 طفل و1000 امرأة، وإصابة 14 ألف شخص، وتهجير نصف السكان (مليون نازح)، وهدم الآلاف من المنازل، واعتقال نحو 5000 فلسطيني بالضفة الغربية بشكل تعسفي. أحدث الاحتلال كافة هذه الأضرار بجسد الأمة الفلسطينية خلال مدة زمنية لم تتجاوز 15 يوما.
ولم تكتفِ الحكومة الإسرائيلية بارتكاب هذه التجاوزات فقط، بل انتهجت خطابا تحريضيا عنصريا مقيتا يذكرنا بسلوك ألمانيا النازية. فقد وصف وزير الدفاع الإسرائيلي للفلسطينيين بالحيوانات البشرية ودعا جنوده للتغاضي عن قوانين الحرب واعدا إياهم بالحصانة من أي محاسبة، وهدد رئيس الوزراء الإسرائيلي بتدمير قطاع غزة، أما رئيس دولة الكيان فقد حمل الأمة الفلسطينية بأكملها مسؤولية مهاجمة حماس عددا من المستوطنات والمواقع العسكرية في السابع من أكتوبر وتُرجم ذلك بالفعل إلى رد فعل انتقامي طال شعب مسكين يخضع لاحتلال غير شرعي وفقا لقرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي.
وكالعادة رد الفعل الدولي وخاصة الغربي عندما يكون الجاني صهيوني والمجني عليه فلسطيني، لم يكن على قدر فجاجة الحدث، رد فعل يعكس انعدام الضمير والإنسانية وازدواجية المعايير، رد فعل لا يساوي حتى الضحية بالجاني، بل ينحاز دون حمرة خجل للأخير. رد فعل يتجاهل الجرائم والانتهاكات المذكورة سلفا ويسهب في تبريرها باسم محاربة الإرهاب وحق الكيان في الدفاع عن نفسه، والتصدي لمعاداة السامية. رد فعل يفقد شعوب الجنوب العالمي ثقتهم وإيمانهم بالمنظومة الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان التي تحكمها منظومة أخلاقية يدعي الغرب أنه مصدرها ويسعى دائما لاحتكار تحديد معاييرها.
ولكن ومع الانحياز الغربي المخزي لسلطة احتلال استعماري غاشمة أقامت نظام فصل عنصريا كما قال الكتاب، فقد أبت ضمائر الأجهزة الفنية المعنية بحقوق الإنسان في الأمم المتحدة وكذلك قوى المجتمع المدني الدولية أن تسلم بمشروعية الانتهاكات الإسرائيلية وعلى صوتها ليكيل لها الأوصاف القانونية التي يمليها عليه الضمير الإنساني. فقد أدان عدد من المقررين بالأمم المتحدة الخواص سياسات العقاب الجماعي التي تبنتها إسرائيل واتهموها بارتكاب جرائم حرب في الأراضي المحتلة. وتوالت الإدانات أيضا من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة اليونيسكو ووكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ومنظمة أطباء بلا حدود ومنظمة العفو الدولية والمنظمة العربية لحقوق الإنسان وعدد كبير من المنظمات الحقوقية غير الحكومية المحلية والدولية.
تشكل هذه الموجة من الإدانات اعترافا صريحا بجرائم سلطة الاحتلال ضد الإنسانية، إلا أنها لم ولن تجد سبيلًا لتترجم لإجراءات فعالة على أرض الواقع لوقف الانتهاكات والمجازر. فمجلس حقوق الإنسان الأممي رغم إدانته للجرائم لم ينشئ لجنة تحقيق لتوثيق جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية مثلما فعل في أوكرانيا، وحتى إن فعل فمجلس الأمن الدولي يقف كحجر عثرة أمام أي إجراء عقابي لمحاسبة قادة الكيان الصهيوني بفضل تسخير الولايات المتحدة لحق النقد الفيتو الخاص بها ليضمن إفلات تل أبيب المزمن من العقاب. والمحكمة الجنائية الدولية لم يصدر عنها مذكرة توقيف ضد أي من القادة العسكريين والسياسيين الإسرائيليين علي غرار التي أصدرتها مؤخرا في حق الرئيس الروسي، وهذا بالرغم من عضوية دولة فلسطين بالمحكمة مما يعطي هذه المحكمة الدولية ولاية قضائية بشكل تلقائي على أي جرائم أو انتهاكات تقع على أراضي فلسطين المعترف بها دوليا المكونة من غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية.
سبب عدم اتخاذ إجراء ضد إسرائيل من قبل الآليات الدولية المعنية بحقوق الإنسان يكمن في الغطاء السياسي الذي توفره لها الولايات المتحدة وعدد آخر غير هين من الدول الأوروبية، فبالرغم من تشدقهم الدائم بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات، إلا أن هذا الخطاب الرنان يختفي تماما عندما تكون تل أبيب في مرمى الاتهام.
من شأن الصمت والتواطؤ الغربي حيال الانتهاكات الإسرائيلية أن يزيد من ضعف منظومة حقوق الإنسان الدولية، ويبدد فاعليتها الهشة، حيث إن الأصل في احترام حقوق الإنسان هو الإقرار العملي بشمولها لجميع البشر بشكل متساوي دون الالتفات للجنس أو اللون أو الدين أو العرق أو التوجه السياسي، ولكن ما يقوم به الغرب بعيد كل البعد عن الالتزام بهذا المعيار الرئيسي، بل استغل قوته ونفوذه بلا هوادة علي مدار أكثر من 70 عاما لتقويض عمل هذه المنظومة من أجل إفلات الكيان الصهيوني من العقاب.
الحرب في غزة أخضعت ضمير العالم للاختبار من جديد، ومع كل أسف تمخضت عنه نفس النتائج المؤسفة التي نلمسها كلما شنت إسرائيل عدوانا على شعب فلسطين. يحتم ذلك علينا ألا ننتظر أي عطايا من النظام العالمي القائم تخدم إنصاف شعب فلسطين المكلوم، وربما تكون المقاومة والنضال من أجل استرجاع الحق المشروع في تحديد المصير والتحرر الوطني هو السبيل الأوحد ليستعيد الشعب الفلسطيني حريته ويحفظ أدميته.