إلى مُلهمي «الميكروباص».. شكرا
بداخله تأتيني أعظم الأفكار، وعلى كرسيه «القلّاب» تتقلب وتختمر، وبجوار سائقه تتحرر وتنطلق، ومن ركابه تستلهم، وفي طول مسافته تكتب وتصاغ.. إنه «الميكروباص» تلك المركبة التي انطلقت منها شرارة كتاباتي المتواضعة.. مستغلا الوقت الذي أمضيه بداخله في كتابة خواطر عابرة أو مقالات صحفية.. كان له الفضل الأكبر في تحقيقها آلاف القراءات والكثير من الإشادات والإعجابات.
خلال الساعات الطويلة المملة والمتعبة التي أقضيها محشورا داخل «الميكروباص» من وإلى بلدتي بمحافظة الشرقية، أحاول أن أتحسس مشاكل ركابه -وما أكثرها- دون فضول وأحيانا بغير كلام، فالحوارات والمناقشات داخله لا تنقطع، فقط أنصت وأتعلم من مواقف وحياة أشخاص طحنتهم الحياة في دوامة المسؤوليات، وهرستهم في مفرمة «لقمة العيش».
أحيانا تعجبني أغانيه الشعبية، وأنسجم مع المطرب الإسكندراني الجميل أحمد شيبة، وهو يشدو برائعته "الدنيا ماشية بضهرها وحطت عليا"، وأتعاطف معه لقسوتها عليه: "وقالتلي لما سألتها أنت الضحية"، وأذوب حزنا حين يندب حظه: "حرام يا دنيا مش كدة.. ده كتير عليا كل كدة.. متاخدنيش كبش فدا.. أنا مش هفية".. ومن منا لم يتأثر بأغتيته "آه لو لعبت يا زهر"، وتمنى من قلبه أن"تتبدل الأحوال"، وأن يركب"أول موجة في سكة الأموال"؟
وكثيرا ما تزعجني مهرجاناته الهابطة، التي لا تخلو من الحكايات الفارغة، ولا أدري سبب فخر "الدخلاوية" أو "المدفعجية" بأنهم "عملوا البحر طحينة" أو "قلبوا اللانش سفينة"، أو المطرب الذي لا أعرف اسمه حين يتوعد خصمه: "أديك في الأرض تفحّر.. أديك في السقف تمحّر"، ويستفزني في تلك المهرجانات التحريض على البلطجة والعنف على طريقة كوبليه: "هتعورني هعورك.. أبوّظلك منظرك".
قد تتعجب عزيزي القارئ من حفظي لبعض كوبليهات أغاني هؤلاء الذين تطلق عليهم «سرسجية»، لكنها تكون مزاج معظم كثير من السائقين الذين يصمون به آذاننا ولا نستطيع في كثير من الأحيان أن نعترض أو نختار ما نسمعه، لأن الشعار جاهز "مش عاجبك.. انزل".. وبالتالي من الطبيعي أن تجدني أحفظ أسماء وعبارات مؤدي المهرجانات، ووددت أن أقول للسائقين الذين يؤذوننا بأصوات أقل ما توصف أنها قبيحة ومزعجة: "لما اللي منك يجرحك.. طب قولي مين هيريحك!".