استراتيجيات مصر الاقتصادية: الفريضة الغائبة
قد تكون مقولة “لا جديد يُذكر ولا قديم يعاد”، ملائمة عند نفاد الحديث عن أمر بعينه منعًا لتكرار الكلام، إلا أن الشق الثاني للمقولة غير مناسب تمامًا في حال تناولنا آليات إصلاح الوضع الاقتصادي.. فبدون أدنى شك هناك قديم لا بد أن يُعاد.
أي نعم، لم يعد هناك جديد يمكن الحديث عنه في شأن الحلول الوقتية للظرف المرّ الذي يعايشه الاقتصاد المصري، فقد تحدثنا عن كل شيء تقريبا يخص مسبات الأزمة وآليات تجاوزها على المدى القريب، لدرجة أن التركيز انصب فقط على ميزان مدفوعات أو الاقتصاد الكلي والسياسات النقدية والمالية خاصة مع دخول صندوق النقد على الخط.
فأصبحنا إن جاز الوصف "نعمل قطاعي".. نعالج مشكلاتنا يوما بيوم دون استراتيجية واضحة أو حتى مبهمة، وكل التحركات تتم فقط من أجل تسكين عوارض الأزمة، في سياسة أقرب لـ"الترقيع" التي إن نجحت فهي فقط سوف تطيل فترة تحمل الأزمة، لكنها لن تحقق المأمول للاقتصاد.
وبلا أدنى شك، فالظرف الذي يمر به الاقتصاد المصري لن يستمر وإن طال أمده واشتد تأثيره، والتاريخ شاهد برهان على ذلك، فالسبع العجاف قد مضت، وكذلك انتهت الشدة المستنصرية، أما أزمة الثمانينات الحانقة وقتها لم نعد نذكرها من أصله، وهكذا ما نمر به الآن سينتهي يومًا ما لا محال.
وهذا بالطبع ينبه إلى ضرورة استثمار الوقت والمجهود في توفير آليات تنفيذية واضحة نحو تحقيق استراتيجية لدعم الاقتصاد، فلا يمكن أن نظل نتعامل "يوم بيوم" في إدارة الاقتصاد، كما أننا لسنا في حاجة إلى مزيد من الوقت والمجهود في إعداد إستراتيجات جديدة أو حلولا خارج الصندوق.
فقط.. نحتاج إلى استكمال تنفيذ الاستراتيجيات المستدامة التي تم البدء فيها قبل 2020 وجائحة كورونا، فهي بالفعل زاخرة بآليات وخبرات لدعم الاقتصاد الوطني بالشكل الذي يضعه على خارطة التنمية والنمو التي حاد عنها لسنوات كثيرة.
وهو ما سوف أطرحه تاليا، محاولا تأصيل الاستراتيجيات المستدامة التي عملت عليها الدولة من خلال أجهزتها المختلفة في الـ 15 عاما الماضية، التي للأسف لم يُكتب لها لا النجاح ولا إمكانية الاستمرار في التنفيذ لظروف وأسباب عدة أبرزها تبعات الجائحة في 2020.
وفي تقديري، فإن استراتيجية التنمية الصناعية في مصر التي تم إعدادها في عهد الوزير الأسبق رشيد محمد رشيد خلال 2010 وحملت عنوان "الصناعة المصرية قاطرة النمو"، لا بد أن تحظى باهتمام ودراسة من قبل القائمين على منظومة الاقتصاد، فهي قد تضمنت الخطوط العريضة للأبعاد الاستراتيجية للتنمية الصناعية في مصر.
وكان من المفترض أن تكون لهذه الاستراتيجية مرحلة تالية تختص بوضع سياسة مفصلة وحزمة عمل، بمشاركة جميع أصحاب المصلحة المعنيين، ويتبعها مرحلة التنفيذ والتي توازيها المراقبة والتقييم المستمر للأداء، إلا أن الأمر توقف فقط عن الإعداد.
أيضا هناك وحدة متابعة مؤشرات أداء الاستثمار التي تم تدشينها في 2018، خلال افتتاح مركز خدمات المستثمرين، فتم طرح نموذج وحدة متابعة الاستثمارات، وتكون معنية بالمؤشرات الاستثمارية التي توضح مدى كفاءة الاستثمار، ومن مهامها أيضًا الربط بين الوزارات لإتاحة الاطلاع على المعلومات الخاصة بالاستثمار، ورغم أن الرئيس أبدى اهتمامه بالفكرة إلا أنه قد اختفى الحديث عنها تماما.
الأهم من ذلك، هي استراتيجية مصر 2030 بعدها الاقتصادي تحديدًا، التي تم إطلاقها في 2016 وتطويرها في 2018، وتمثل –كما تشير دباجتها- موطئ قدم على الطريق نحو تحقيق التنمية الشاملة والسير في طريق الرخاء الاقتصادي، كما تمثل خارطة طريق لتعظيم الميزة التنافسية لتحقيق أحلام وتطلعات المصريين نحو حياة وكريمة.
وتستهدف الاستراتيجية، اقتصادًا تنافسيًّا ومتنوعًا يتمثل أهدافه الفرعية في تحقيق نمو اقتصادي مرتفع، احتوائي ومستدام، ورفع درجة مرونة وتنافسية الاقتصاد، وزيادة معدلات التشغيل وفرص العمل اللائقة، وتحسين بيئة الأعمال وتعزيز ثقافة ريادة الأعمال، وتحقيق الشمول المالي، وأيضًا التحول نحو الاقتصاد الرقمي ومستدام.
كذلك هناك البرنامج الوطني للإصلاحات الهيكلية، والذي تم إعداده في 2019، كمحاولة تكميلية لرؤية 2030، وتناول كيفية إدارة الاصلاح الاقتصادي عن طريق التركيز على عدة قطاعات، وظل مستمرًا حتى 2020، وأنتج توصيات جديرة بالإشادة والانتباه، خاصة الإجراءات قصيرة ومتوسطة المدى المطلوبة من وزارات الصناعة والتجارة الخارجية والزراعة والاتصالات.
بالطبع أجهزة الدولة المعنية تعج بالدراسات والاستراتيجيات التي تم إعدادها خلال الفترات الماضية، وكل ما هو مطلوب حاليا هو وضع هذه البرامج التي حظيت بالوقت، والجهد والخبرة في سبيل إعدادها، على طريق التنفيذ.
هناك "قديما" لا بد أن يُعاد، فمصر لا تحتاج للتفكير خارج الصندوق قدر ما تحتاج لتنفيذ ما بداخله، وأيضًا لا تحتاج إلى إبداع في المقترحات قدر الإنجاز في التنفيذ.