المصريون في الأزمات رهان رابح
هِبةُ اللهِ من قديمِ الزمانِ.. إنها مصرُ فانطلقْ يا لساني
وتجاوزْ حدودَ شِعرٍ ووزنٍ.. رُبَّ حُبٍّ أقوى من الأوزانِ
ريشتي حاولت، وقولي، ولكنْ.. أعجزت مصرُ ريشتي ولساني
هذه الأبيات هي مقدمة ونهاية قصيدة الشاعر المبدع محمد نجيب المراد ولا أبالغ إذا قلت أنها وبشكل خاص هذه الكلمات التي ذكرتها من أجمل ما قرأت عن مصر، وذلك كونها تصفها بإبداع ودقة، ولعل أروع ما في الأمر أن من كتبها ليس مصريا وإنما هو سوري الجنسية، ورغم ذلك عبر عن مصر الملهمة بهذا الإبداع العالي والصادق.
مازلنا نعيش حالة هي الأسوأ في تاريخنا المعاصر، حيث تتم عمليات إبادة جماعية لأكثر من 2 مليون فلسطيني شقيق، يعيشون في قطاع غزة على مساحة 300 كيلو متر مربع، وذلك بعد حصار خانق قائم منذ 17 عاما.
أكثر من شهر يحشد العدو الإسرائيلي قواته وبإمدادات أمريكية متواصلة في مواجهة شعب أعزل مستخدما كل أنواع الأسلحة المحرمة دوليا، حتى أن وزير التراث الإسرائيلي قال بكل وضوح أنه لا يستبعد إلقاء قنبلة نووية على قطاع غزة.
ولعل ما يحدث من قصف على مدار الساعة برا وبحرا وجوا بدعم غربي لا محدود يعد بمثابة قنبلتين نوويتين وليس واحدة بحسب تقدير خبراء عسكريين، لما وقع من دمار غير مسبوق، يكشف عن وجه العدو ومن يدعمونه القبيح بشكل يضرب عرض الحائط بكل القوانين والأعراف الدولية والمبادئ الإنسانية، لدرجة قصف المستشفيات وحصارها ثم اقتحامها بكل وحشية مما تسبب في مقتل العديد من المرضى أغلبهم أطفال خدج كما رأينا بمجمع الشفاء الطبي مؤخرا، ذلك قطع الكهرباء والماء والاتصالات عن القطاع وإصرار العدو الإسرائيلي على عدم إدخال الوقود نهائيا مما يهدد حياة مئات الآلاف من البشر، في ظل موقف رسمي عربي وإسلامي هزيل لا يرتق أبدا لمستوى الحدث، وقد بدى ذلك بوضوح بعدما رأينا نتائج قمة الرياض.
لكن عندما ننظر إلى الموقف الشعبي المصري بشكل خاص نجد ما يسر الخاطر، وينبئ بأن هذا الشعب ورغم كل محاولات تغييبه وإشغاله وتغيير عقيدته تجاه عدوه التاريخي، وتبديد أولوياته، وفي ظل أزمات اقتصادية يعيشها تثقل كاهله، وكانت قبل أحداث 7 أكتوبر هي أولى أولوياته.. نجد أن كل ذلك قد توقف لتتجه البوصلة ناحية فلسطين كقضية تاريخية وغزة على وجه الخصوص.
أثبت المصريون أن الرهان عليهم رابح عندما يجدون قيمة يناضلون من أجلها، ويقتنعون بها وليس مجرد أوهام تباع لهم.. فهو حقا شعب يصنع المستحيل إذا وجد من يقنعه ويشعل حماسه ويخرج قدراته الهائلة.
فكانت معركة المقاطعة التي اجتاحت كل قطاعات المصريين حتى وصلت ولأول مرة للأطفال الذين يعدون أبطالها الآن فعليا بمثابة رسالة واضحة لا لبس فيها أن المصريين لم ولن يتخلون أبدا عن أمتهم وقضاياها العادلة، ولا تمنعهم ظروف قاسية يعيشونها من التواجد والحضور بقوة.. كيف لا وهم أبناء الأرض الطيبة والحضارة الضاربة في جذور التاريخ ولسوا مجرد نبت شيطاني خرج هكذا أو تمت صناعته بلا قيم وثوابت.
أذكر هنا موقفا يدعو للفخر والاعتزاز بالانتماء لشعب عظيم كهذا، رغم بعض الظواهر السلبية التي ربما نحن الآن نقف على مشارف إنهاء الكثير منها بعدما استشعر أغلب المصريين معنى القيمة والهدف.
كنا في أمسية ثقافية بنادي الأدب ببيت ثقافة مدينتي دكرنس منذ أيام، وبدون ترتيب مسبق تحولت إلى حالة من التضامن مع شعبنا الفلسطيني، واشتعلت القاعة بالمداخلات الشعرية من الحضور بشكل حماسي تلقائي إن دل فإنما يدل على أننا حقا وبفضل الله مازلنا بخير.
أجمل ما حدث خلال هذه الأمسية أننا وجدنا بعض الأطفال من جيران بيت الثقافة قد أتوا إلينا بعدما سمعوا القصائد المبدعة التي كان يلقيها الشعراء، فدعوناهم للجلوس في القاعة معنا وقد سعدنا بذلك جدا فهؤلاء هم النشأ الذي نعمل لأجله في الأساس.
وبشكل مفاجئ طلب طفل منهم الكلمة، فرحبنا بذلك وجلسنا لنسمع ماذا يريد أن يقول، وهو ربما لم يتجاوز سبع سنوات من عمره.. فإذ به يتحدث عن المقاطعة وأهميتها بطريقة طفولية بريئة لكنها تشير إلى أننا بالفعل نعيش كأمة مصرية بشكل خاص حالة من الانتصار الحقيقي على كل حملات التشويش والتتفيه التي تستهدفنا منذ سنوات حتى كدنا أن نفقد الأمل في الأجيال القادمة من حيث الوعي والهدف، لنجدهم عندما يرون قيمة حقيقية تستحق الوقوف لا يتأخرون بل يتفوقون على بعض من يكبروهم سنا ممن ينهزمون أمام رغباتهم بكل أسف، بينما نجد أطفالا يرفضون بشدة التعامل مع سلع كانت يوما أجمل ما في حياتهم بحسب اهتماماتهم، وذلك لأنهم يرون أنها تساعد من يقتلون الأشقاء في فلسطين كما قال ذلك الطفل الصغير سنا والكبير عقلا وقيمة بما حمله من فكر.. وذلك مكسب لو تعلمون عظيم لما يترتب عليه من تكوين شخصيات جيل يعرف معنى العزة والكرامة والمواقف.
والأهم من كل ذلك إفساد مخطط نظام التفاهة الذي كاد أن يتمكن منا بشكل نهائي، وأكبر دليل على هذا أننا منذ بدأت الحرب الوحشية على شعبنا في غزة لم نعد نسمع عن مصطلح الترند التافه الذي كان قد تحول إلى أمر واقع، وأصبح شغل قطاعات كبيرة من الناس الشاغل وسباق نحو السقوط يجد تفاعلا كبيرا يشجع كثيرين على دخوله، وكنا نرى كيف أن توافه يتصدرون المشهد ويصبحون حديث الناس بلا أي منفعة تذكر.
كل ذلك انتهى بمجرد أن وجد المصريون قيمة عليا يلتفون حولها وقضية حقيقية يؤمنون بصدقها ونبلها وذلك درس مهم لمن يعيه.