غزة بعد الحرب.. أين يذهب مئات الآلاف في مدينة مدمرة؟
تتنفس غزة الصعداء أخيرا بعد أسابيع من الغارات الإسرائيلية الوحشية التي عكرت صفو سمائها بلهب القنابل وغبار التفجيرات، ولطخت أرضها بدماء آلاف الأبرياء، يحاول القطاع العصي على الموت أن يخطو للأمام تاركا خلفه أيام الحرب التعيسة، لكن قدميه الداميتين مثقلة بأرواح آلاف من مواطنيه باتوا شهداء وأرض واسعة صارت ركاما، وحياة صارت أثرا بعد عين، تحاول غزة أن تتخطى فترة الدم والنار لكنها تعلم يقينا أن أمامها الكثير لتتعافى من آثار أصابع عاثت فيها فساد وإفسادا وقتلا وتدميرا.
4 أيام هي المدة التي طرحها سجان غزة؛ ليرى ساكنيها ضوء الشمس بعد تلاشي غبار الحرب، لكن شمس غزة ستشرق هذه المرة على أرض مهدمة بيوتها ومهجر شعبها، تحمل في بطنها أطفالا كانوا أمس على ظهرها يعانقون ضوء الشمس.
لا تفي الكلمات لوصف واقع غزة الذي حاول الاحتلال قتل الحياة فيها، لكنها بإرث النضال وباسم المقاومة تأبى الموت.
دمار واسع في البيوت والبنى التحتية
العدوان الإسرائيلي على غزة، حوّل جزءا كبيرا من شمال القطاع إلى أرض مدمرة ومحى أحياء بكاملها، فالمنازل والمدارس والمستشفيات تعرضت للقصف الجوي والمدفعي.
وتظهر صور الأقمار الصناعية دمارا على نطاق واسع، بعدما ألقت إسرائيل مئات القنابل يوميا على القطاع لاسيما في الشمال، وعلى سبيل المثال في بيت حانون بأقصى الشمال، لم يبق مبنى واحدا صالحا للسكن قائما، حسبما وصف مراسل إسرائيلي الوضع في 12 نوفمبر، وكان يعيش في المنطقة أكثر من 52 ألف شخص قبل الحرب.
العدد النهائي للمباني المدمرة غير متوفر لاستمرار القصف، لكن آخر التحديثات المعروفة تشير إلى أن نحو 280 ألف وحدة سكنية مدمرة كليا أو جزئيا، وهو ما يمثل 59% من الوحدات السكنية في غزة، ويشمل هذا الرقم 56 ألف وحدة مدمرة كليا و224 ألف وحدة مدمرة جزئيا، بحسب تقديرات السلطة الفلسطينية.
وفي تقرير صدر في 15 نوفمبر، قال مكتب تنسيق الشئون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، إن 279 منشأة تعليمية قد تضررت، أي أكثر من 51% من مدارس القطاع.
ولحق الدمار بالمستشفيات والمدارس، ووثقت منظمة الصحة العالمية، 178 اعتداء على القطاع الصحي في غزة، ففي الشمال مستشفيان صغيران فقط يعملان بشكل جزئي؛ بينما في الجنوب 7 من أصل 11 مستشفى يعمل بشكل جزئي.
وانخفضت سعة الأسرة في غزة من 3500 سرير قبل الحرب إلى 1400 سرير فقط حاليا، بحسب السلطة الفلسطينية.
جريمة حرب في غزة
وفي مدينة سكنية سيكون السكان بحاجة إلى ما هو أكثر من أربعة حوائط وسقف لتكون مدينتهم قابلة للحياة، فما بقي من الأطفال على قيد الحياة سيكون بحاجة إلى التعليم، وخدمات صحية وغذائية ومتطلبات حياتية أخرى، وهي مطالب السكان الأكبر سنا كذلك.
ويقول المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق في السكن اللائق، بالاكريشنان راجاجوبال، إن الأعمال العدائية تؤدي إلى تدمير وإلحاق الضرر بشكل منهجي بمساكن المدنيين والبنية التحتية، ما يجعل مدينة بأكملها مثل مدينة غزة غير صالحة للسكن؛ وهو ما يعد جريمة حرب.
ونقلت وكالة أسوشيتد برس، عن مخيمر أبو سعدة أستاذ العلوم السياسية بجامعة الأزهر في مدينة غزة، قوله: لقد تحول شمال غزة إلى مدينة أشباح كبيرة.. ليس لدى الناس ما يعودون إليه.
مئات الآلاف من النازحين بلا مأوى
النيران الإسرائيلية في الشمال دفعت جزاء كبيرا من السكان إلى الفرار نحو الجنوب، وبات 1.7 مليون من سكان غزة نازحين، معظمهم من الشمال الذي كان يُقدر عدد سكانه قبل الحرب بـ1.2 مليون شخص، بات ما يقارب المليون منهم نازحين في الجنوب.
وفي الجنوب يعيش مئات الآلاف من الفلسطينيين في خيام، بمناطق مكتظة لا تؤمن الخدمات الأساسية بشكل كاف، فمن بين النازحين، يعيش ما يزيد على 800 ألف فلسطيني في 99 منشأة تابعة لمنظمة الأونروا.
يضم قطاع غزة، عدة مخيمات شيدت إبان النكبة لإيواء المهجرين تحت وطأة الحرب في أربعينيات القرن الماضي، ولم يعودوا إلى ديارهم أبدا بعد احتلالها من إسرائيل، ويخشى الفلسطينيون أن تكون هذه نكبتهم الثانية.
ويقول عدنان أبو حسنة، المستشار الإعلامي لمنظمة الأونروا، إنه يرَ في حياته، إزالة أحياء كاملة عن الوجود في مدينة غزة، “رأيت أناسا، هم سكان مدينة غزة الأصليون، الذين لم يغادروا غزة منذ آلاف السنوات، ولكن اليوم أصبحوا لاجئين ونازحين في مدينة جديدة”.
وتابع: لم أرَ حجم هذه المأساة، إنها نكبة جديدة للفلسطينيين، لم أكن أتوقع أن أرى مئات الآلاف من النازحين الذين تركوا كل شيء.
وكان الوضع الاجتماعي والاقتصادي في غزة، سيئًا بالفعل قبل الحرب، وتشير التقديرات إلى أن معدل الفقر وصل إلى 61% في عام 2020، وفي تقدير أولي، قالت وكالات الأمم المتحدة إنه من المتوقع أن يرتفع الفقر بنسبة تتراوح بين 20% و45%، اعتمادًا على مدة الحرب، بحسب رويترز.