السبت 23 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

مستشفى الأمراض النقدية

الثلاثاء 12/ديسمبر/2023 - 09:53 ص

أظهرت البيانات الأخيرة الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أن التضخم قد تباطأ إلى 34.6% في نوفمبر الماضي على أساس سنوي، بعدما كان قد وصل إلى معدل 35.8% في أكتوبر الذي يسبقه والمستوى الأعلى على الإطلاق والذي بلغ 38% في شهر سبتمبر.

ورغم أن المركزي للإحصاء قد أرجع هذا التراجع إلى الدعم الذي وفره تباطؤ زيادة أسعار المواد الغذائية، إلا أن السبب الرئيسي لا يتعلق بالأسعار نفسها بل يرتبط بارتفاع التضخم خلال الشهر المناظر الذي تجري المقارنة على أساسه، وهو ما يعرف بتأثير سنة الأساس.

ولهذا فإن أرقام التضخم خلال الفترة المقبلة سوف تستمر في التباطؤ، دون أن يشعر المواطن بأي انخفاض في الأسعار، خاصة وأن التباطؤ في هذه الحالة ظاهرة رقمية إحصائية غير ملموسة على أرض الواقع، وتتعلق فقط كما أوضحت بسنة الأساس.

‏فمصر لا تزال تحتل المركز الأول عالميا في تضخم الغذاء الحقيقي- وهو تضخم الغذاء مطروح منه مؤشر أسعار المستهلك- للشهر الثالث على التوالي وفقًا لتحديث البنك الدولي للأمن الغذائي في 30 نوفمبر، بنسبة 35% وبفارق يزيد عن الضعف للدولة التي تحل بعدها في الترتيب وهي الأرچنتين.

وفي حين أن آليات كبح التضخم بشكل فعلي معروفة وتتمثل في التدخل من جانب السياسات النقدية عن طريق رفع سعر الفائدة ومن جانب السياسة المالية بخفض التوسع في المصروفات الحكومية، إلا أن هذه الآليات مُعطلة مؤقتا في حالتنا.

فالحكومة هي المستدين الأكبر وأي تحرك من جانب البنك المركزي لرفع الفائدة سوف يرتب بالتبعية زيادة كبيرة في الدين الحكومي المتضخم من أصله، بل أن سياسات البنك المركزي باتت تستهدف حاليا تخليص الحكومة من العجز، وهو ما يزيد من التضخم ذاته متأثرا بتزايد المعروض النقدي.

فبالنظر إلى صافي المطالبات على الحكومة على دفاتر البنك المركزي، نجد أنها قد بلغت 1.7 تريليون جنيه طبقا لتقرير يوليو بالمقارنة بـ 700 مليار جنيه بنهاية 2021، وسوف يتطلب هذا الأمر لاحقا إجراء ما يعرف بـ"عمليات السوق المفتوحة" من قبل المركزي لسحب هذا الفائض من السيولة حين يبدأ في استهداف التضخم بشكل عملي، لذا فالوضع مأزوم لدرجة لا تقبل المزيد من الالتزامات التي سوف يرتبها أي تحرك برفع سعر الفائدة.

وعليه فإن أرقام التضخم سوف تتباطأ مرحليا بشكل طبيعي بتأثير سنة الأساس ليس إلا، أما التحرك النقدي برفع سعر الفائدة الحقيقي من خلال الدخول في دورة تشديد نقدي بغرض اجتذاب تدفقات دولارية لحل الأزمة، فربما لن يتم قبل انحسار دورة التشديد من قبل البنك الفيدرالي الأمريكي، وهو أمر قد لا نشهده قبل النصف الثاني من 2024.

ناهيك عن أن أي تحريك له معنى لسعر الصرف لابد وأن يرتبط بما بعرف بالـ carry trade أو بدخول تدفقات عند سعر صرف معين في ظل فائدة مرتفعة وخروجها عند سعر صرف أقل ليحقق المستثمر ربحا على سعر الصرف والفائدة، وهو ما لا يمكن أن يتحقق الآن في ظل صافي معدل فائدة سلبي، وإن تم دون ذلك، فإن تحريك لسعر الصرف سيكون كالحرث في البحر.

ويعني ذلك أن عملية تأخير تحريك سعر الصرف حاليا، ليست شأن سياسي فحسب، قدر ارتباطها بظروف تسمح بدخول تدفقات حقيقية تسند سعر رسمي مستقر وتمنع تواجد مزمن لسعرين صرف، وتوفر منطقية للضرر الذي قد يلحق الطبقات محدودة الدخل، وهو أمر وإن كان ينسحب على الأسواق الناشئة التي تعاني بشكل كبير من نفس المُعضلة باختلاف درجات التأثر فهو يمس مصر بشكل خاص، حيث تتحمل الحكومة المصرية عبء ديون أعلى من معظم نظيراتها في الأسواق الناشئة بحسب ما أشار إليه تحليل لوكالة بلومبرج.

فعلى مدار العقد الماضي، خصصت مصر أكثر من نصف دخلها الضريبي لدفع الفوائد على ديونها، وفي الفترة من يوليو إلى سبتمبر من هذا العام، بلغت تكاليف الفائدة أكثر من مرة ونصف ما تم تحصيله من الضرائب، وفقا لبيانات وزارة المالية.

ورغم أن الهدف الأساسي من التعويم الذي تم تنفيذه 4 مرات منذ نوفمبر 2016، هو تسهيل عملية حصول الدولة على تمويل دولاري لحل أزمة شح العملة، إلا أن عدم تزامن عمليات التعويم السابقة مع بناء اقتصاد تشغيلي قوي (رغم المُنجز التنموي وتطوير البنية التحتية) أرجعنا الآن إلى نفس الأزمة بظروف معيشية أكثر تعقيدا.

‏الملحوظ في واقعنا، أنه منذ بدء عملية الإصلاح الاقتصادي حتى حينه لم نتعلم الدرس جيدا فيما يتعلق بإصلاحات هيكلية ناجزة وانحصرت كل الحلول الاقتصادية في الإطار التمويلي فقط من أموال ساخنة وقروض ومساعدات وغيره، وكأننا في مستشفى أمراض نقدية فقط لا مكان فيها لأي علاج تشغيلي حقيقي.

تابع مواقعنا